بينما يقترب موعد الانتخابات النيابية المقبلة في العراق، يتصاعد الجدل حول جدوى المشاركة وجدوى التغيير عبر صناديق الاقتراع. فحالة الإحباط الشعبي تتفاقم بفعل تراكم الفشل والأزمات السياسية والخدمية، وتزداد الهوة عمقاً بين المواطن والمنظومة الحاكمة في ظل انعدام الثقة والشكوك في نزاهة العملية الانتخابية.
المال السياسي والسلاح المنفلت، وهيمنة القوى التقليدية، كلها عوامل رُسخت وما تزال تُضعف آمال الناس بأي امكانية للتغيير. أما الأسئلة تتكرر ذاتها مع كل دورة انتخابية جديدة: هل يمكن حقاً إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام؟. هل يكفي الذهاب إلى صناديق الاقتراع، أم أن اللعبة محكومة مسبقاً؟. وما الذي يمكن أن يدفع المواطن اليوم، بعد كل هذا الإحباط، ليمنح صوته مجدداً في ظل واقع لم تتغير فيه قواعد السلطة ولا معايير الصعود السياسي؟.
وفي هذا السياق، تتعدد الرؤى والمواقف، وتختلف الحسابات، لكن القاسم المشترك بينها هو الطموح للتغيير، سواء عبر المشاركة أو المقاطعة أو محاولات بناء بدائل مدنية جديدة.
واقع يكرّس هيمنة الأقلية
في هذا الصدد يطرح المحلل السياسي مناف الموسوي، رؤية متشائمة حول إمكانية التغيير في ظل استمرار المعوقات البنيوية، ويرى أن "الحديث عن إمكانية إحداث تغيير فعلي في الانتخابات المقبلة يبدو غير واقعي بفعل عوامل عديدة"، ويشير في ذات الوقت إلى أن "النسبة الكبيرة من المقاطعين والتي قد تصل إلى 80 في المائة، تعكس فقدان الثقة بين المواطنين وصناديق الاقتراع".
ويوضح الموسوي، في حديث لمنصّة "الجبال"، أن "الناخب اليوم لا يجد مبرراً يدفعه للعدول عن قرار المقاطعة، فغياب الشفافية، ووجود السلاح المنفلت، واستغلال المال العام، عوامل تجعل من المشاركة عملية غير مجدية".
ويضيف: "حين يشعر المواطن أن صوته لا يؤثر، وأن الأكفأ لا يُنتخب، وأن الفاسدين يعودون بفضل التلاعب أو السيطرة، فكيف يمكن الحديث عن تغيير حقيقي؟".
ويلفت إلى، أن "السلاح خارج سلطة الدولة ما زال يشكل تهديداً صريحاً لنزاهة الانتخابات"، قائلاً: "لا يمكن الحديث عن انتخابات شفافة في ظل وجود جماعات مسلحة تفرض إرادتها، وفي ظل مشاركة شخصيات تنفيذية في السباق الانتخابي مثل وزيري الدفاع والداخلية، ما يضرب مبدأ الحياد المؤسسي ويقوض ثقة الناخب بالعملية برمتها".
يشير الموسوي إلى، أن "المؤسسات المكلفة بضمان نزاهة الانتخابات، وعلى رأسها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لا تحظى بثقة الجمهور نتيجة عدم استقلاليتها الفعلية كما هو مفترض".
يتابع: "عندما يُقسّم النفوذ في المحافظات بين الأحزاب قبل حتى إجراء الانتخابات، كما حدث في الانتخابات المحلية السابقة، فإن النتائج تكون محسومة سلفاً لصالح قوى السلطة".
ويتحدث الموسوي عما وصفه بـ"ديكتاتورية الأحزاب"، قائلاً: "نحن اليوم أمام إعادة إنتاج لحكم الأقلية، ولكن بأقنعة متعددة، إذ تحتكر أحزاب السلطة العملية السياسية وتتنافس فيما بينها على جمهور حزبي لا يمثل أكثر من 10 إلى 15% من العراقيين. وهذا الواقع يُفرغ الديمقراطية من مضمونها ويكرس أزمة تمثيل عميقة".
ويرى أن "بعض القوى السياسية التي شاركت سابقاً في الانتخابات باتت اليوم ضمن صفوف المقاطعين، ما يعكس اتساع رقعة الرفض الشعبي، ويطرح سؤالاً جوهرياً حول مدى شرعية الانتخابات المقبلة إذا أجريت بنسب مشاركة متدنية رغم علمه بأنها لن تؤثر وستحتسب نتائجها مهما كانت النسبة متدنية".
وفي هذا السياق، يبيّن الموسوي، أن "التغيير لا يمكن أن يحدث في ظل قانون انتخابي مُفصّل على مقاسات زعامات الأحزاب، ولا في ظل استمرار المال السياسي وشراء الأصوات، وهو ما بدأ فعلياً من خلال شراء بطاقات الناخبين"، موضحاً أن "الانتخابات المقبلة قد تكون ميداناً لتغلغل رجال أعمال يسعون للحصانة والامتيازات، لا لخدمة المواطن".
وأكمل حديثه بالقول، إن "المقاطعة وحدها لا تكفي إن لم تُترجم إلى ضغط جماهيري واسع. يجب أن تتحول المقاطعة إلى حراك شعبي فعّال يبدأ بعد الانتخابات، مستنداً إلى حجم الامتناع الشعبي عن التصويت، ليشكل قاعدة ضغط حقيقية نحو الإصلاح والتغيير الجذري في بنية النظام السياسي".
تحالف مدني بديل يسعى للضغط والمشاركة
وفي هذا الإطار، ومن بين المبادرات السياسية التي تسعى إلى كسر طوق الجمود، تبرز محاولات القوى المدنية لتشكيل تحالفات جديدة تطرح بديلاً واقعياً لمنظومة المحاصصة، إذ يرى الحزب الشيوعي العراقي أن التغيير لا يأتي فقط بالمقاطعة، بل عبر "مشروع وطني أشمل" يزاوج بين الضغط الشعبي والمشاركة الواعية في العملية السياسية.
ويرأى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، أن "المبدأ العام للحزب هو المشاركة في الانتخابات، وأن خيار المقاطعة يُعد استثناءً يُلجأ إليه في ظل ظروف استثنائية"، مشيراً إلى أن "الحزب لم يقاطع سوى انتخابات عام 2021، وكان ذلك مرتبطاً بسياق انتفاضة تشرين وتداعياتها".
ويوضح فهمي في حديث لمنصّة "الجبال"، أن "القرار حينها جاء نتيجة لمجموعة من العوامل، منها استهداف قادة الانتفاضة وسقوط شهداء، فضلاً عن القانون الانتخابي الذي صُمم برأينا على مقاس الكتل المتنفذة، في محاولة لتفكيك الحراك الشعبي وإجهاض مطالبه".
ويضيف، أن "الانتخابات المبكرة التي دعا إليها الشعب كان يُفترض أن تكون مدخلاً للتغيير، لكن الأجواء آنذاك لم تكن مهيأة لتحقيق هذا الهدف، ولهذا اتخذنا قرار المقاطعة".
وعمّا اختلف بين 2021 واليوم، يشير فهمي إلى أن "الظروف الراهنة تختلف عن تلك التي سبقت انتخابات 2021، حيث يتركّز الحراك الشعبي حالياً على المطالب المعيشية والخدمية أكثر من القضايا السياسية"، مضيفاً أن "العديد من القوى المدنية، والأحزاب الناشئة التي انبثقت عن انتفاضة تشرين، تتجه نحو المشاركة، ما يجعل خيار المشاركة اليوم أقرب، رغم إدراكنا أن هذه الانتخابات قد لا تحقق كل الطموحات".
وفي السياق، يرى سكرتير الحزب أن "العوامل السلبية التي أثّرت في نزاهة الانتخابات لا تزال قائمة، مثل المال السياسي، والسلاح المنفلت، وعدم تطبيق قانون الأحزاب"، مستدركاً بالقول: "لكن مع ذلك، نرى أن المشاركة في هذه المرحلة قد تُفتح أمامها فرص للتغيير، خاصة مع اختلال التوازنات الإقليمية التي قد تُضعف بعض القوى المتنفذة التي بَنَت سلطتها على الاصطفافات الخارجية، والارتهان لإرادات عابرة للحدود".
ويؤكد فهمي، أن "الرأي العام العراقي يزداد رفضاً لمنظومة المحاصصة، ونحن نضع الانتخابات ضمن مشروع أشمل للتغيير، ونعتبرها أداة من أدوات الضغط، لا بديلاً عن الحراك الشعبي".
ويكشف فهمي، عن "قرب الانتهاء من تشكيل تحالف مدني واسع تحت اسم (البديل)، وهو في طور التسجيل الرسمي، ويضم طيفاً متنوعاً من القوى المدنية، منها أحزاب ناشئة وحركات ذات توجه وطني مدني، مثل حركة الوفاء بزعامة عدنان الزرفي".
ويوضح، أن "بعض القوى قد تكون لديها تحفظات على أطراف معينة داخل التحالف، وهذا طبيعي، لكننا نتحلى بالمرونة من أجل ترتيب الأولويات واستيعاب هذا التنوع، لأن هدفنا المشترك هو التغيير".
وعن البرنامج السياسي للتحالف، قال فهمي إنه "يركز على إنهاء نظام المحاصصة، وترسيخ الهوية الوطنية، واستقلال القرار العراقي، وحصر السلاح بيد الدولة، فضلاً عن تعزيز الديمقراطية، والحريات العامة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في مجالات الصحة، والتعليم، وتمكين الشباب والمرأة".
وفيما يتعلق بالقوى المدنية التي اختارت المقاطعة، يؤكد فهمي "ضرورة التمييز بين مستويين من العمل: التحالف الحالي يغلب عليه الطابع الانتخابي، لكن لدينا مشروع وطني ديمقراطي للتغيير يضم قوى أخرى، بعضها قد يقاطع الانتخابات أو يشارك ضمن قوائم مختلفة".
ويضيف: "طرحنا وثيقة سياسية على عدد من هذه القوى، وتلقينا ملاحظاتهم، ونسعى إلى بناء رؤية موحدة تجمع كل الطامحين للتغيير؛ لأن الانتخابات والمشاركة فيها لا تعني القطيعة مع القوى التي تشترك معنا بالأهداف، بل هي ميدان ضمن ميادين عدة للعمل السياسي".
واختتم فهمي حديثه بالقول، إن "الفساد قائم لأن نظام المحاصصة يرعاه، وتفكيكه لا يمكن أن يتم من خلال المقاطعة وحدها، ما لم تكن مدعومة بحراك شعبي منظم وضاغط. أما في غيابه، فالمشاركة تظل أداة فاعلة ومهمة، وعلينا أن نواصل الحوار مع القوى المقاطعة لضمان دور فاعل لها في مشروع التغيير الوطني الديمقراطي".
التغيير مرهون بـ"الأغلبية الصامتة"
ورغم الدعوة للتغيير، تبقى المعادلة الانتخابية مختلّة ما لم يتحرك العامل الحاسم القادر على تغيير موازين القوى، وهو يكمن بحسب رئيس مركز اليرموك للدراسات الاستراتيجية عمار العزاوي، في "الأغلبية الصامتة"، التي لا تزال تمثل الكتلة الحاسمة في أي تحول انتخابي و تمثل الكتلة الكبرى من الناخبين.
العزاوي وفي حديث لمنصّة "الجبال"، يؤكد أن "التغيير في انتخابات مجلس النواب المقبلة يعتمد بشكل كبير على الأغلبية الصامتة وحجم مشاركتها الفعلية في العملية الانتخابية".
ويقول: "بعد سنوات من التجربة الانتخابية، لا بدّ أن يكون هناك وعي جماهيري حقيقي لإحداث التغيير المنشود، خصوصاً أن العديد من الأحزاب والحركات السياسية لم تقدم برامج واقعية أو خطوات عملية تُلامس هموم الناس، مما أدى إلى تزايد الإحباط وانعدام الثقة لدى الشارع العراقي".
ويشير إلى أن "هناك ما يقارب 20% من الناخبين يشكّلون قاعدة حزبية مؤدلجة، تتبع توجهات سياسية واضحة، لكن النسبة الأكبر من الجمهور، وهي ما يُعرف بـ(الأغلبية الصامتة)، تمثل العنصر الحاسم في أي تغيير مرتقب".
ويرى أن "هذه الفئة الواسعة من الناخبين لم تشارك في دورات سابقة لأسباب تتعلق بفقدان الثقة أو ضعف المعرفة بالمرشحين، لا بسبب موقف مبدئي من الانتخابات، لا سيما في مناطق مثل العاصمة بغداد. وإذا ما توفرت لها شخصيات كفوءة وموثوقة، فإنها قادرة على قلب موازين المعادلة الانتخابية".
ويشدد على أن "كسب هذه الفئة، خصوصاً من المثقفين وحملة الشهادات والموظفين، يتطلب ترشيح شخصيات ذات مصداقية، تقدم برامج انتخابية واضحة ورصينة تلبي تطلعاتهم وتلامس اهتماماتهم".
ويختم العزاوي بالقول: "التغيير السياسي الحقيقي سيكون مرهوناً بنسبة مشاركة الأغلبية الصامتة، فهي القادرة على إحداث الفارق وتغيير الوجوه المتصدرة للمشهد السياسي حالياً، إذا ما قررت التوجه إلى صناديق الاقتراع".
معضلة قانونية وتحصّن بالاستثناءات
في المقابل، يرى الخبير القانوني سيف السعدي، أن "حجم التجاوزات القانونية التي تُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها الحقيقي كبيرة ولا يمكن تجاهلها ببساطة".
ويقول السعدي في تصريح لمنصّة "الجبال"، إن "قانون الأحزاب رقم 36 لسنة 2015، رغم كونه نافذاً ويتضمن 54 مادة، إلا أنه لا يُطبّق فعلياً على أرض الواقع، ما أدى إلى خروقات واضحة تهدد بنية النظام الديمقراطي في العراق".
ويشير إلى، أن "المادة 5/ثانياً من القانون تنصّ صراحة على عدم جواز تسجيل الأحزاب ذات الطابع الطائفي أو المذهبي، ومع ذلك تم تسجيل العديد من الأحزاب التي تحمل تسميات ذات صبغة طائفية، في خرق واضح للقانون".
ويواصل بالقول، إن "الأمر لا يقتصر على هذا فقط. فالمادة 8 من القانون تحظر تسجيل الأحزاب التي تمتلك تشكيلات مسلحة، ومع ذلك لدينا أحزاب تمارس العمل السياسي ولها أجنحة عسكرية، في مخالفة صريحة أيضاً للدستور، لا سيما المادة 9/ب، والمادة 7".
ويؤكد السعدي أن "الجهة المسؤولة عن مراقبة تطبيق هذا القانون هي دائرة شؤون الأحزاب، والتي نصّت المادة 8/ثانياً على أنها مكلفة بمتابعة مدى التزام الأحزاب ببرامجها الانتخابية ومحاسبتها بناءً على ما تحققه من تلك البرامج بعد كل دورة انتخابية، وهو ما لا يحدث على أرض الواقع".
ويتابع قائلاً: "قد يتساءل البعض عن الأساس القانوني لمحاسبة الأحزاب، والجواب يكمن في المواد 42 و43 و44 من القانون ذاته، حيث تتلقى الأحزاب دعماً مالياً من الموازنة الاتحادية، بنسب تتراوح بين 80 في المائة من للأحزاب الممثلة في مجلس النواب والمجالس المحلية، و20 في المائة للأحزاب المسجلة غير الممثلة. وهذا الدعم يرتّب مسؤوليات قانونية يجب أن تقابلها محاسبة حقيقية".
ويشدد السعدي، على أن "المشكلة في العراق ليست في القوانين ذاتها، بل في (الاستثناءات) التي تُفرغ القوانين من محتواها"، ويقول إن "هناك مقولة شهيرة: القانون يجب أن يكون كالموت، لا يستثني أحداً، لكن ما نراه هو العكس تماماً".
وفي السياق، يحذر الخبير القانوني من "خطورة النظام الانتخابي الحالي"، معتبراً أنه "يُنتج برلماناً مشلولاً لا يعكس الإرادة الشعبية".
ويضيف: "لدينا اليوم أكثر من 330 حزباً سياسياً، والبرلمان معطّل بسبب عدم اكتمال النصاب وتعطيل القوانين، من بينها قانون المحكمة الاتحادية، وقانون النفط والغاز، وكذلك قانون مجلس الاتحاد، ما يعني أن البنية الدستورية للبلاد غير مكتملة".