تتزايد المخاوف في محافظة البصرة من تحوّلها إلى بيئة طاردة وغير قابلة للحياة، مع تسارع المؤشرات المناخية التي تُنذر بتجاوز خط اللارجعة، فقد سجلت المدينة في بعض الأيام درجات حرارة تجاوزت 53 درجة مئوية، خاصة في المناطق المحاذية للحقول النفطية، التي تُمثّل بؤراً حرارية تسهم في تفاقم ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية، وتسرّع من وتيرة الاحترار المناخي المحلي.
يشير الخبراء إلى أن هذه الظواهر لم تعد استثنائية، بل أصبحت نمطاً موسمياً متكرّراً، نتيجة الانبعاثات المتزايدة من قطاع الطاقة وغياب منظومة وطنية فعّالة لرصد التغيّرات المناخية والتكيف معها.
وفي موازاة ذلك، تواجه المياه السطحية في شط العرب انهياراً بيئياً بعدما تجاوزت نسب الملوحة فيه 30 ألف TDS أي ما يعادل نصف ملوحة مياه البحر، فيما يعتبر مختصون أن هذا التحوّل يشكّل تهديداً صريحاً للأمن المائي في المحافظة ويقوّض قدرة السكان على الحصول على مياه صالحة للشرب أو الري، لا سيما في ظل تراجع الإيرادات المائية القادمة من أعالي الفرات ودجلة، وتأثير التغيّر المناخي على دورة المياه الطبيعية.
في منطقة الزبير، التي تُعدّ سلة غذاء محلية للبصرة، تتجلّى ملامح الانهيار الزراعي بأوضح صوره. المزارع محمد صنكر، وفي حديثه لمنصة "الجبال"، عبّر عن حجم الأزمة بالقول إن "الرياح الحارقة والملوحة وقلة الأمطار دمّرت المحاصيل وأحرقت البيوت البلاستيكية أكثر من 3000 مزرعة تضررت هذا الموسم بخسائر تتراوح بين 3 إلى 5 ملايين دينار للمزرعة الواحدة في ظل غياب منظومة تأمينية أو دعم حكومي ملموس".
ويُفاقم المشكلة غياب قاعدة بيانات موحدة تُسجّل مساحة ونشاط كل مزرعة، ما يجعل من التعويضات مهمة شبه مستحيلة.
تغيّب الاستراتيجيات وتوقف مشاريع التكيّف
ويُقرّ مدير بيئة البصرة وليد الموسوي بأن التدهور البيئي الحاصل ناتج عن فشل مؤسساتي متراكم ويقول في تصريحه لـ"الجبال"، إن "البصرة بلا مشروع تشجير حقيقي، بلا قانون رادع لتجريف البساتين، وبلا خطط فعالة للتكيّف المناخي إننا نشاهد انهياراً بيئياً دون أن نملك أدوات الاستجابة المناسبة".
وأضاف أن "إيقاف نزيف البيئة يتطلّب تفعيل تشريعات بيئية جادة واستثماراً مستداماً في البُنى التحتية المائية ووقف عمليات إزالة الغطاء النباتي التي تسهم في تسارع التصحر".
العواصف والغبار… مئة يوم في قبضة الرمل
من جانبه، يوضح المتنبئ الجوي صادق عطية في حديثه لـ"الجبال" أن "البصرة تعيش في ظل مناخ جاف متحوّل بفعل الاحترار العالمي إذ تسجّل المحافظة أكثر من 100 يوم غباري سنوياً نتيجة التصحّر وفقدان المسطحات الخضراء إلى جانب التغير في أنماط الرياح الموسمية كما تراجعت معدلات الأمطار بنسبة تفوق 40% مقارنة بالمتوسطات السنوية في العقود الماضية".
ويُضيف عطية أن "تزايد الغبار وندرة الأمطار يدفعان السكان خصوصاً في المناطق الزراعية إلى الهجرة نحو الحواضر ما يزيد من الضغط على الموارد والخدمات ويُولّد صراعات اجتماعية صامتة على المياه والأراضي".
واستمرار حرق الغاز المصاحب في حقول النفط دون اعتماد تكنولوجيا الاستخلاص النظيف وغياب أي استراتيجية متكاملة لإدارة النفايات البيئية يضع البصرة على خارطة المناطق "الأكثر هشاشة مناخياً"، بحسب التصنيفات الأممية الحديثة.
ويتخوّف مختصون من أن تكرار سيناريوهات الانهيار البيئي الذي قد يجعل المدينة، خلال العقدين القادمين شبيهة ببعض مناطق الخليج التي أصبحت غير صالحة للحياة الخارجية لأكثر من 6 أشهر سنوياً.
ويحذر الخبير البيئي جاسم الأسدي، مدير منظمة طبيعة العراق أن المشهد البيئي في البصرة يُنذر بانهيار مزدوج للمنظومة الطبيعية والاقتصادية ويقول لـ"الجبال": "نحن أمام تفكك ممنهج للزراعة التقليدية، بفعل الجفاف المتكرر، ارتفاع ملوحة المياه، وتقلص الغطاء النباتي نخيل البصرة يُحتضر، ومحاصيلها الأساسية في طريقها إلى الانقراض".
ويُشير الأسدي إلى أن "التصحّر زحف على آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية وسط غياب برامج لإعادة التأهيل البيئي أو دعم البذور المقاومة للملوحة"، محذراً من أن "ما يحدث اليوم ليس مجرّد أزمة موسمية بل انهيار ممنهج يتطلّب خطة إنقاذ زراعية شاملة، تبدأ بتنمية الموارد المائية وتمرّ بإصلاح السياسات الزراعية وتنتهي بإنشاء بنية بيئية مرنة قادرة على التكيف مع المناخ المتحوّل".