التحضيرات الانتخابية للدورة التشريعية السادسة في نوفمبر القادم، بدأت مُبكِّرة على عكس الدورات التشريعية السابقة. الطبقة السياسية التي فشلت في إدارة الدولة العراقية منذ 2003 و لحد الآن، تحاول في هذا الموعد المبكر نسبياً رفع حرارة الطقس الانتخابي للبلاد بالطائفية والمال السياسي. أمّا خارجياً فقد تعودت خلال العشرين عاماً الماضية على اقتراض أمن واستقرار البلاد، من صندوق تحوطات الاستقرار الإقليمي و العالمي. هذا الصندوق لن يكون فيه المزيد لأن العالم يعيشُ اليوم لحظة فارقة.
هناك تحولات جيوسياسية كبيرة جداً، غيَّرت تموضع القوى الدولية والإقليمية بعد السابع من أكتوبر 2023. نحنُ في العراق لدينا تفاؤل إيجابي بأننا نقِفُ على مسافة آمنة، تُبعدنا عن التداعيات العالمية بشكلٍ مباشر أو على الأقل سنتأثر بطريقةٍ غير مباشرة؛ أي على صعيد علاقاتنا بدول الجوار التي هي أيضاً جزء من هذه التحوَّلات. الفرق بأن العراق مُرشَّح أكثر من جِواره القريب لأن يصبح "ضحية طريق" هذه التحوَّلات باستعارتنا لوصف الباحث كينيث بولاك. التاريخ السياسي للعالم يزخرُ بأمثلةٍ لا تُحصى عن حركةٍ دؤوب للدول من قلب النظام العالمي إلى هوامشه والعكسُ صحيح.
الشرق الأوسط الذي يعتبرُ أحد أهم المناطق العالمية للقوى العظمى والسوبر الأميركية، مشغول في المنطقة بــ "انشاء مراكز مستقلة للقوة، تمتلك كل المقومات والضروريات لمقاومة الضغط". إيان شابيرو عالم السياسة الأميركي كان يقصد الاتحاد السوفييتي السابق. نحن اخترنا أن نقتبس منه لا كي نقترح الصين بديلاً كما هو شائع اليوم في الأدبيات الإعلامية. ولا للإيحاء بأن المسألة تنحصر في تبديل البَشَرَة الإيديولوجية للصراع العالمي من قوقازية إلى صفراء، إنّما هي تتعلَّق بإيجاد قوى وازنة في الشرق الأوسط تستطيع مقاومة الضغوط العالمية بدون الانحياز البارد – نسبة إلى الحرب الباردة – إلى طرفٍ ما، وتُحافظ على انسيابية الاقتصاد والطاقة وسلاسل التوريد العالمية.
الديمقراطية الحقيقية في العراق، هي البطاقة الذهبية الوحيدة كي نستطيع حجز مقعد على طاولة "المراكز المستقلة للقوَّة". أو بتعبيرٍ أكثر دقَّة "طريق التنمية الوحيد لعائدات الدولة خارجياً و داخلياً". أمّا إذا اختارت بعض الأحزاب النافذة التي تُعاني من عبادة المال العام و الزعيم، أن تطعن الدستور بالدستور الذي لا يشترط حد أدنى لنسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات لتكون نتائجها شرعيَّة فإننا ندعوهم لاستخدام المرآة الدولية لرؤية انعكاس فوزهم الدستوري!.
نسبة مشاركة القاعدة الاجتماعية - الانتخابية التي تُنتج سُلطة تدير البلاد ستؤخذ بنظر الاعتبار. هذه النسبة ستنعكس في موقف المنظمات الدولية وحتى في علاقاتنا مع بقية الدول. قد لا يترجم هذا الانعكاس الدولي إلى إجراءات عملية، لكن سينظر إلى الدولة وإلى ممثليها بنوع من عدم الثقة أو الحذر. عملياً سينعكس بمدى استعداد الدول لإقامة علاقات بينية معنا، لا سيما الاقتصادية والاستثمارية. البعد الآخر يتعلق بالثقة الدولية فيما إن كان العراق يستحقُ حضوراً وازناً في المنظمات العالمية. شئنا أم أبينا فإن رصيد ثقة العالم بأيَّ دولة مرتبط بنزاهة وعدالة إجراءاتها الانتخابية.
رسوب البلاد دولياً مُرجَّح جداً بحسب مشهد التحضيرات الانتخابية للدورة التشريعية القادمة؛ إذ أن بعض القوى السياسية تحاولُ تفصيل بدلة المشاركة الانتخابية بشراء الذمم، استخدام النفوذ، والتهديد أو التلميح باستخدام العنف. أيضاً، آليات الحكم الناتجة من هكذا انتخابات ستتأثر بدورها بشكلٍ كبير. مبادئ الكفاءة و النزاهة والتعبير عن المصلحة العليا للبلاد ستُحشر في جيوب المصالح الخاصة والفئوية، وبالتالي إضعاف آليات المراقبة والمتابعة على كل الأصعدة ومن ضمنها البرلمانية التي ستكون أضعفها.
كان يجدرُ باللاعبين السياسيين داخل البلاد أن يستخدموا الانتخابات السابقة المُبكِّرة في 2021 كمرآة. على الأقل لعدم نسيان العزوف الجماهيري عن المشاركة الانتخابية التي وصلت إلى الستين في المائة فقط، بحسب طريقة حسابية فريدة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات اعتمدت على من يمتلكون البطاقات "البايومترية" لا على أعداد الناخبين المؤهلين للتصويت.
الأخطر من ذلك، أنَّ التحضيرات الانتخابية تشي بأننا بصدد إعادة إنتاج ذات الطبقة والمنظومة السياسيتين اللتين كانتا سبب الفشل الذي شهدته الدولة العراقية منذ 2003. والمُدرَّعة اليوم باستشراء الفساد الذي أصبح مؤسسة عملاقة في السنوات الأخيرة. الأسوأ أنها جعلت البلاد رهينة تدخلات خارجية فظة، ما زالت تنتهك بشكلٍ كبير استقلالية البلاد وقراراتها السيادية. هذا يُضعف هيبة ومكانة الدولة العراقية وقُدرتِها على حماية مصالح البلاد العليا.
نحنُ نريد حكومة تمتلكُ أهم العناصر الرئيسية للقوَّة؛ التمثيل الحقيقي للسُلطة السياسية والسُلطة التشريعية، الناتجة من تمثيلٍ شعبي واسع يرتكز على آلية انتخابية عادلة. كما أن نزاهة وصولها الانتخابية ستُمكِّنها من أمورٍ عدَّة، أهمها تبني خيارات اقتصادية حقيقية لا تكون تحت رحمة سعر البرميل النفطي لتأمين احتياجات البلاد، و سياسة خارجية متوازنة لا تتزحلق على جليد الأجندات الذائب في صيف التحديات الدولية.
وصول سُلطة مُمثِّلة بشكلٍ حقيقي للأوساط الشعبية، يحتاج إلى أحزابٍ لديها برامج سياسية تستأهِلُ نقاشاتٍ موسَّعة، تتقبل اقتراحات متنوِّعة، وتمتلك رؤى مختلفة بنَّاءة. المفترض بالعملية الانتخابية أن تضمن منافسة عادلة بين برامج الأحزاب السياسية، بجعلها في متناول الناخب لكي يتخذ قراراته و خياراته، وبالتالي إشعال حماسة الناخب لتلوين أصابعه بالحبر البنفسجي. أمّا من يريدون الاعتماد على المال السياسي في شراء صوت الناخب، كما كان يحصل في أكشن الوفرة المالية للسنوات الماضية التي خففت وطأة الأزمات، نقول لهم إننا اليوم أمام تحديات مالية وإقليمية ودولية، لا يمكن الهروب منها بتكتيك "أضرب بالمال السياسي و أهرب بموارد الدولة". سياسة أضرب وأهرب ستكون بالغة الصعوبة إن لم تكُن مستحيلة.
الظروف المطلوبة لعدم عزوف الناخب العراقي عن المشاركة في انتخابات نوفمبر القادمة، هي إيمانه بوجود فُرصة حقيقية لفوز النُخب الحزبية المدنية والمُستقلَّة المُتسلِّحة ببرامج سياسية واضحة، وعدم تسخين التحضيرات الانتخابية بالطائفية و عبادة الزعماء، و التخلي عن "قصص رعب الإرهاب" و"جيمس بوند البعث" كدستور لرفع الحظوظ الانتخابية على أسنتِها.
عدم توفَّر شروط النزاهة الانتخابية سيكون معناه استنساخ الدولة العراقية للمصير البريطاني بعد ثورة زغلول و عُرابي عام 1919 بحسب كريستيان أولريخسن "إنَّ الكثير من العناصر التآزرية الحضرية بدأت تقنن دعمها للسُلطات البريطانية، لتقليل خسائرها". أو تبقى الطبقة السياسية التي تُريد طعن الدستور بالدستور في رحلة بحثٍ مستمرة لإيجاد جواب السؤال الذي طرحته نورينا هيرتس "كيف يمكن أن تكون الانتخابات حرّة ونزيهة عندما لا يستطيع أن يشارك فيها إلّا من امتلأت خزائنهُ بالأموال؟" و التي سنُذكِّرُها في الطبعة الجديدة لكتابها بأن تضيف إلى هذا السؤال واو العطف ومفردة السلاح.
هذا المقال تمت كتابته بشكل مشترك بين السيد رائد فهمي/ سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ومسار عبد المحسن راضي/ كاتب وصحافي وباحث عراقي.