استثمر سياسيون عراقيون أحداث محافظة السويداء السورية للتدليل مرة أخرى على أهمية وجود الميليشيات في الدولة العراقية، بدعوى أن الجماعات المسلحة الدرزية واجهت المسلحين المتطرفين الذين يعملون تحت غطاء الأجهزة الأمنية السورية الرسمية، وأنه لولا السلاح الدرزي، لربما حصلت مجزرة أكبر وأفظع بالأهالي والمدنيين هناك.
هذا الاستنتاج يتجاهل حقيقة أن التدخل العسكري الإسرائيلي والضغط الدبلوماسي الأميركي هما من أوقفا المواجهة، تبعاً لحسابات خاصة بكلتا الدولتين، وليس لغايات تخص الدولة السورية ومواطنيها. وساحة المواجهة في سوريا متشابكة، ولا يمكن فرز خيوطها لنصل إلى استنتاج سريع يتعلّق بأهمية الميليشيات في حياتنا.
على هامش ذلك، هناك مخاوف معقولة ومنطقية، من داخل الدائرة السياسية أو حتى من النخب الإعلامية والثقافية والشارع العراقي عموماً، فيما لو انزلقت سوريا إلى ما يشبه حرباً أهلية جديدة، وانتعشت الجماعات الإرهابية التقليدية مثل القاعدة وداعش، وقررت هذه، في لحظة ما، أن تدخل إلى العراق، على وفق سيناريو "غزوة الموصل" في حزيران 2014.
وهنا، تقدّم الميليشيات العراقية نفسها، مرة أخرى، باعتبارها جواباً على هذه المخاوف، لا الجندي ولا الشرطي العراقي النظامي، الذي يخضع للدولة والدستور والعلم العراقي، فهو المكلّف، بشكل طبيعي، بمهام حماية الوطن والمواطنين، مثلما يفعل أقرانه في أي دولة محترمة في العالم.
إن جزءاً أساسياً من المشكلة في سوريا أن نظام بشار الأسد بدأ بالتآكل منذ عام 2011 تدريجياً، حتى وصل إلى ما يشبه النظام، من دون سيطرة واضحة على أجزاء كثيرة من سوريا، وباعتماد كلّي على الميليشيات والمتطوعين الأجانب. وكانت لحظة سقوطه، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، مجرد ضربة أخيرة في الجدار المتهاوي أصلاً للنظام. ومع انهياره، وهذا ما حدث في سيناريو العراق 2003، انهارت الدولة نفسها. وصارت الميليشيات، من خلفيات اجتماعية وطائفية وعرقية مختلفة، هي المتحكمة بالأرض. ولم تُستعَد الدولة بعد.
ليس الحلّ في سوريا هو تعزيز سلطة الميليشيات كي تقف في وجه ميليشيات أخرى اندمجت في قوات الجيش والشرطة الرسميين، وإنما بالعبور إلى منطقة أعلى؛ بناء جيش وأجهزة أمنية على أسس مهنية وعقيدة وطنية. وهذه مهمة معقّدة وصعبة حالياً.
أما في العراق، فقد تجاوزنا هذا المخنق منذ سنوات، ويُفترض أننا تعلمنا، بالطريقة القاسية والدامية المريرة، الدرس جيداً. ولدينا اليوم أجهزة أمنية رسمية، يندمج في عقيدتها أفراد من مختلف الخلفيات الاجتماعية، ويعرفون أن واجبهم ليس خدمة قائد أو زعيم، وإنما خدمة العلم الرسمي للدولة، والدفاع عن المواطنين والمصالح العامة. فما حاجتنا إلى الميليشيات؟.
لقد وقف إخوتي وأبناء جيراني، على سبيل المثال، في الشارع داخل حيّنا السكني، بعد سقوط نظام صدّام في نيسان 2003، لعدة أيام، يتناوبون على حراسة المنطقة، بسبب غياب الدولة. ثم، حين ظهرت الميليشيات السنية والشيعية، لتتفرغ لواجبات الحماية والتدقيق في هويات الغرباء الذين يدخلون الأحياء السكنية، كان الغالبية يتفهمون هذه الأوضاع الطارئة، والتي يمكن أن تحدث في أي مكان آخر في العالم. فحين يختفي دور الدولة، على المجتمع المحلي نفسه أن يتولى حماية نفسه والدفاع عن المدنيين.
ولكن السيناريو الذي يعرفه الجميع انتهى بنا لاحقاً إلى تشكيل سلطة لجماعات مسلحة تقاوم عودة الدولة، بل وتقاتل الدولة تحت دعاوى شتى. ثم لتغدو طرفاً سياسياً مفاوضاً، وتفرض نفسها داخل المؤسسات الرسمية، ومن خلال هذا النفوذ المتزايد، شرّعت لثنائية سلاح الدولة وسلاح الميليشيات، وجعلته مقبولاً!.
إنْ حدث وهجمت جماعات إرهابية من سوريا على الأراضي العراقية، أو هجم "جيش أحمد الشرع" كما يروّج بعض قادة الميليشيات، فإن السلاح الميليشياوي لن يحمي العراق، وإنما الأجهزة الأمنية الرسمية. ولن ينفع هنا التحجّج بسيناريو حزيران 2014، فما أضعف الجيش في تلك الأوقات هو سوء الإدارة السياسية، والفساد داخل المؤسسة الرسمية، وليس فكرة وجود جيش رسمي يحمي الدولة.
إنّ الترويج لفكرة عدم كفاءة الأجهزة الأمنية الرسمية العراقية في الدفاع عن البلد، هو جزء من الحرب النفسية والإعلامية المعادية للعراق، والتي تخدم العدو، أيّاً كان، لا مصالح البلد.