منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، يشكل الوضع الجديد في سوريا حالة من الحيرة للمنطقة عموما والعراق خصوصاً في كيفية التعامل مع الوضع الجديد، خصوصاً وأن المسيطر على الدولة الجديدة هو زعيم تنظيم ديني مسلّح، وهو أكثر ما تخشاه المنظومات الدولية والعالمية الحديثة وتكره التعامل معه، ولا سيما الشعوب العربية والإسلامية التي سبق أن اختبرت مدى خطورة التنظيمات الدينية المسلحة.
لكن "زعيم هيئة تحرير الشام"، "أبو محمد الجولاني"، والذي استرجع اسمه الحقيقي فيما بعد "احمد الشرع"، لانتهاء "صبغة الثورة" كما وصفها سابقاً، باعتبار أن الهدف من "الثورة" قد تحقق بسقوط الأسد، ولم يعد هناك داعٍ من الاستمرار بنفس العقلية وأسلوب الحياة "الثورجي"، ليصبح الشرع أمراً واقعاً على سوريا والمنطقة عموماً بل والعالم، بعد أن طوى صفحة لم يكن أحد يتوقع أنها تطوى بهذه الطريقة المتمثلة بإنهاء حكم عائلة الأسد بعد حوالي نصف قرن، بل أن الواقع الجديد على يد الشرع "الجولاني"، لم يكن فقط قد تسبب بإنهاء نصف قرن من حكم عائلة الأسد، ولا "انتصارا للثورة الشعبية السورية"، كما توصف، بل أنه تسبب بخلخلة مشروع قوي في المنطقة المتمثل بـ"قطع هلال المحور" كما يوصف، بعد سنوات من النفوذ الإيراني القوي في سوريا والذي كان يعد حلقة وصل بين إيران والعراق ولبنان.
وسط تداخل هذه القضايا، يصبح الرفض العراقي السياسي-الشعبي، له عدة أسباب ظاهرية وخفية، حيث أن التعامل يتم مع واحدة من أكثر القضايا المعقدة والجديدة، أن يتحول "شخص محكوم وملاحق ومتهم بالإرهاب إلى رئيس دولة مجاورة يتم التعامل معه بشكل مباشر"، بل ورئيس دولة ضرورية للعراق على المستوى الشعبي على الأقل لكونها تضم واحداً من اهم المراقد الدينية المقدسة عند الشيعة المتمثل بـ "مرقد السيدة زينب".
ورغم صعوبته، يمكن الغوص أكثر ومحاولة التوصل لأسباب الرفض الشعبي والسياسي للشرع أو إمكانية إقامة علاقات معه من قبل العراق، خصوصاً بعد ان تسببت صورة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مع الشرع وأمير قطر، بما يمكن وصفه بـ"زلزال سياسي وشعبي"، رغم أن وزير خارجية الشرع كان قد زار العراق قبل أيام والتقى بالسوداني.
من هذه المقارنة الأولية، ورغم وجود رفض أيضاً للقاء وزير خارجية الشرع، لكن شدة الرفض تتصاعد تجاه الشرع تحديداً، للحد الذي دفع لقراءة تقول إن مستقبل السوداني الانتخابي والسياسي تأثر كثيراً من هذا اللقاء، بعد عامين من المشاريع الخدمية والشعبية الكبيرة التي حصل عليها.
كما ذكر في وقت سابق، تتنوع أسباب الرفض تجاه اللقاء بالشرع وجميعها تتداخل، واحدة من هذه الأسباب هي "محاولة إيجاد مبدأ ثابت ضد "التنظيمات الإسلامية الجهادية" فالشعوب غالباً لديها مشكلة مع هذا النوع من التوجهات، بل ما يزيد الأمر أكثر أن الأوساط الشعبية لديها مشكلة أساساً مع "التنظيمات الإسلامية المسلحة الجهادية السنية"، وهذا لا يتعلق بالمبدأ الجهادي تحديداً بل بالتجارب السيئة لديهم مع هذا النوع من التنظيمات، فالأوساط الشيعية غالباً متقبلة للتنظيمات الجهادية الشيعية.
السبب الآخر هو "الغضب من الجولاني" لكونه كان سبباً بإنهاء "هلال المحور"، وهذا السبب غالباً ما يكون بدافع سياسي مع وجود أثر له في الوجدان الشيعي ايضاً، كما يوجد سبب اخر سياسي خفي أيضاً وهو "الرفض السياسي الشيعي لتطبيع الأوضاع مع هذا النموذج من الصعود السياسي"، أي المساهمة في "تثبيت شرعية" تجربة القادة الجهاديين واستيلائهم على الدول وتحولهم إلى رؤساء بالأمر الواقع، وهو أمر يبدو أن القيادات السياسية الشيعية تخشى أن يكون مشجعاً ليتكرر في العراق سواء من قبل "تنظيمات سنية أو شيعية".
كل الأسباب السابقة "خفيّة" كما أنها لا توفر أي مبرر قانوني ودستوري وسياسي يمنع السوداني من لقاء الشرع أو استقباله في العراق وفقاً للأسباب المذكورة، فالتهمة الوحيدة للشرع هي أنه "قيادي إسلامي جهادي" وهذه التهمة "تبرأ عنها الشرع بنفسه"، أي أنه لم يعد يصدّر نفسه كقيادي جهادي، ولا يمكن التعامل مع الواقع إلا بما هو واقع ونوع النشاطات.
اما السبب الرئيس والمعلن في العراق تجاه رفض الشرع ورفض الجلوس معه، هو "التورط بالدم العراقي" وكونه "إرهابي" مارس نشاطاته في العراق. لكن بغض النظر عن كونه كان في العراق، وعلى المستوى الشعبي، يكفي تداول مقاطع فيديو وصور للشرع عندما كان قائداً لتحرير الشام بلحيته العالية ورايات هيئة تحرير الشام الإسلامية التي كانت تتمركز في إدلب، فهي كافية لحصول "رد فعل منزعج" منه بسبب مشكلة الشعوب ولا سيما العراقيين مع "التنظيمات الجهادية"، ولا علاقة للأمر بأن كان لديه نشاطات في العراق أم لا.
أما فيما يتعلق بقضية كونه إرهابياً مارس القتل بحق العراقيين، فتتنوع الاتهامات لكن لم يتم إظهار وثيقة تدين الشرع بالفعل، بل أن تصريحات المسؤولين العراقيين تتضارب بشأن المعلومات عنه. على سبيل المثال، قال وزير الداخلية الأسبق باقر جبر صولاغ إن الجولاني "هرب من سجن أبو غريب"، وهي حادثة حصلت منتصف عام 2013، في الوقت الذي كان فيه الجولاني في سوريا أساساً ومرّ عامان على إطلاق سراحه من العراق أساساً.
كما قال زعيم كتلة بابليون ريان الكلداني، إن الجولاني متورط بـ"مجزرة كنيسة سيد النجاة" في بغداد، وهي تسمية لهجوم إرهابي وقع في 31 تشرين الأول 2010، وفي هذا التوقيت كان الجولاني أساساً في المعتقل وبحوزة القوات العراقية.
وسبق لـ "الجولاني"/الشرع أن "برأ نفسه من التورط بالدم العراقي" وقال إنه جاء للعراق بقصد "الجهاد ضد الأميركان"، وقد سرّبت منصات مقربة من "الفصائل والمحور في العراق"، وثائق عن الجولاني تظهر إثباتات عن اعتقاله في العراق وملف احتجازه.
وتظهر الوثائق أن "الجولاني" كان في العراق بجنسية عراقية مزوّرة باسم "أمجد مظفر النعيمي"، اعتقله الأميركان في أيار 2005، أي في وقت مبكر من الأحداث في العراق وهو ما قاله بالضبط "الجولاني" إنه تم اعتقاله بعد فترة وجيزة من دخوله العراق، وبقي في سجن "بوكا" والمعتقلات الأميركية في العراق من أيار 2005 لغاية نيسان 2010، أي بقي 5 سنوات في معتقلات الأميركان.
في شباط 2010 أصدرت لجنة شؤون المحتجزين العراقية المشكلة من مجلس القضاء الأعلى مذكرة قبض بحق "الجولاني"، باسمه العراقي "مظفر النعيمي"، وعلى ما يبدو أنها أصدرت مذكرة القبض هذه دون أن يعلم الجانب العراقي أنه معتقل أساساً لدى الأميركان، لذلك بعد شهرين قام الأميركان بتسليمه إلى الجانب العراقي أي في نيسان 2010 بعد 5 سنوات سجن في المعتقلات الأميركية.
ومنذ نيسان 2010 لغاية 13 آذار 2011، أي خلال حوالي عام بقي "الجولاني" في السجون العراقية، ثم أُطلِق سراحه في 13 آذار 2011 كما تثبت الوثائق، فيما تظهر خلاصة ملف الموقوف أنه تم إطلاق سراحه من الجانب العراقي بهذا التاريخ "لعدم مطلوبيته لأي جهة تحقيقية، ولعدم كفاية الأدلة المتحصلة ضده بناء على قرار قاضي محكمة التحقيق المتخصصة بقضايا المعتقلين"، كما تقول مذكرة صادرة من المخابرات السورية أن الشرع ذهب إلى العراق أثناء الغزو الأميركي بقصد "الجهاد".
وفقاً لذلك، تظهر الوثائق العراقية عن خلاصة فترة سجن "الجولاني" أنه "غير مطلوب للقضاء العراقي" حيث سبق وأن تم إطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة وعدم مطلوبيته من قبل أي جهاز أمني أو استخباري عراقي، كما أن مقارنة التواريخ تثبت عدم دقة الادعاءات والاتهامات الوحيدة الصادرة من مسؤولين عراقيين مثل تفجير كنيسة سيدة النجاة لكونه كان في المعتقل خلال هذه الفترة.
وبعد إطلاق سراح "الجولاني" في اذار 2011، والذي تزامن مع اندلاع الأحداث السورية، ذهب "الجولاني" سريعاً إلى سوريا، باقتراح قدمه إلى زعيم تنظيم داعش "أبو بكر البغدادي" (وهي تهمة أخرى وسبب إضافي يرفع نسبة لا مقبولية الجولاني ورفضه في العرق).
لكن في الخلاصة، يمكن القول إن التعاون مع زعيم "داعش" تهمة، لكن تبرؤ "الجولاني من وضعه الجهادي" ومن تنظيم داعش بل ومحاربته أساساً منذ الأيام الأولى لدخول التنظيم إلى سوريا واختلافه معهم، ثم الانفصال عن القاعدة، تجعل مسألة تحول "الجولاني" ليست بالجديدة بل سابقة، لذلك فإن التعامل مع "الجولاني" الجديد يعني التعامل مع زعيم "هيئة تحرير الشام"، وهذا الزعيم بنسخته الجديدة يقول إنه لم يعد "جهادياً ثورياً".
وفقاً لذلك، فإن كان الرفض للجولاني بصفته "جهادياً"، فبالرغم من كونه أصبح هذا الأمر من الماضي، فإنه أيضاً ليس مبرراً قانونياً أو دستورياً يمنع التعامل معه من قبل العراق، بل ما يمنع العراق من التعامل مع الجولاني هو "كونه مطلوباً للقضاء العراقي أو متورط بقضايا سابقة"، وهذا ما تنفيه الوثائق المتوفرة عن فترة احتجاز الشرع في العراق.