عن العنصرية ومأساة الكورد الفيلية في العراق

4 قراءة دقيقة
عن العنصرية ومأساة الكورد الفيلية في العراق نصب شهداء الكورد الفيليين

يروي لي صديق من الكورد الفيلية كيف أن آخر عملية ترسيم حدود بين الدولتين الفارسية والعثمانية، وكانت في بدايات القرن العشرين، حسمت أمر الحدود في الإقليم العراقي في مناطق بدرة، زرباطية، الشلامجة، حاج عمران. ولكن الترسيم الكامل لم ينته بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى.


المصادفات وحدها، وإرادة الدول الكبرى، بما فيها روسيا وبريطانيا في ذلك الوقت، هي التي جعلت أجداد هذا الصديق عراقيين، بينما أبناء عمومته، على الجهة الثانية من خط الحدود، فرساً [أو إيرانيين على وفق التسمية الجديدة التي اعتمدها لاحقاً رضا شاه الأول].


الكثير من هؤلاء الكورد الذين عاشوا في بغداد ومدن عراقية مختلفة، لم يكونوا يرون خطّ الحدود الوهمي، وعبروه بحثاً عن العمل والرزق، ثم صاروا بعد أقل من قرن ضحيّة جريمة انسانية كبيرة؛ بعمليات التهجير وسلب الممتلكات التي قام بها نظام البعث.


غير أن عمليات التهجير كانت قد بدأت من وقت أبكر، لعل أشهرها ما حصل في الخمسينيات، مع ترحيل اليهود العراقيين، حيث أتّهم الكثير من العراقيين من أصول فارسية، ومن فيلية إيران المجنّسين بالجنسية العراقية، ومن الفيلية العراقيين أباً عن جد، بأنهم عملاء ومعادون للدولة، وجرى ترحيلهم.


قامت السياسات العنصرية بتمزيق النسيج العراقي، فنحن لا نتحدث عن فئات اجتماعية قليلة العدد، بل كانت كبيرة، ولها تأثير بالغ على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.


بالمحصّلة كان هناك مسار يرافق مسار الدولة العراقية الحديثة، يشير الى أن النبرة العنصرية العروبية كلّما تصاعدت فإن فئات لا تنطبق عليها المواصفات العروبية سيتم استهدافها. وانتهى العراق في حكم البعث خالياً تقريباً من أي عراقيين من أصول فارسية، وتهجير ما لا يقلّ عن نصف مليون كوردي فيلي، في التقديرات المتوسّطة، وترفعه بعض التقارير الكوردستانية الى حدود 600 ألف، وعلينا أن نقدّر حجم الكارثة حين نعرف أن عدد سكّان العراق في ذلك الوقت لم يتجاوز 13 مليون نسمة.


استعاد أقل من نصف هؤلاء جنسيتهم العراقية بعد 2003، وفضّل آخرون الاندماج مع الحياة في إيران، أو في بلدان المهجر الأوربية، ومع ذلك ظلّ النفس العنصري يواجه العائدين، وفي مرّة تداولت بعض الصفحات على مواقع التواصل أخباراً زائفة بأنه يجري حالياً منح الجنسية العراقية للإيرانيين بأعداد كبيرة لأغراض انتخابية، أو لتغيير ديموغرافي.

 

على الجانب الآخر شكّل الفيليون جزءاً مهماً من حركات المقاومة التي نشأت في إيران ضد نظام البعث في العراق، وصار لبعضهم تأثير سياسي وأمني كبير في عراق ما بعد 2003. وعاد بعضهم وأولادهم لا يجيدون اللغة العربية، ما شكّل عائقاً أمام الاندماج مع غالبية سكّان بلدهم.


تحكي قصّة الفيليين، والعراقيين من أصل فارسي، جانباً مهماً من قصّة العراق المفتوح على فضائين أساسيين؛ الفضاء العربي وفضاء آسيا.


العراق، منذ الدولة العباسية على الأقل، إن لم نتحدّث عن مراحل أقدم، كان ملتقى الاندماج والتفاعل بين عناصر عربية وأخرى قادمة من الأقاليم الكوردية وفارس وتركيا وما وراها من شعوب وأقوام حتى الصين. وهي حركة تفاعل من الداخل إلى الخارج وبالعكس، فكان بطرياريك الكنيسة المشرقية العراقية، على سبيل المثال، يشرف من كرسيه ببغداد، منذ القرن الثامن الميلادي، على البعثات التبشيرية في آسيا، ورعايا كنيسته الذين وصلوا حتى منغوليا شمال الصين.


هناك عوائل كاملة، عبر التاريخ العراقي تعرّبت أو تكرّدت، ولا يستطيع اليوم أي عراقي أن يدّعي أن دماءه ترجع إلى نوع عرقي واحد من دون اختلاط. والأمر نفسه ينطبق على الطوائف والعقائد، فأتباعها خليط من كلّ الأعراق والقوميات، وأي طرف أو جهة تجري عملية جراحية قسرية، بناءً على تصورات عنصرية، فلا تفعل شيئاً أقل من تفجير النسيج الاجتماعي العراقي.

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الأحد 8 يونيو 2025 12:40 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.