مع أول ظهور لملامح موسم الصيف اللاهب، ظهرت أزمة جديدة تلوح في الأفق، ليس فقط عبر ارتفاع درجات الحرارة، بل عبر موجات متتابعة من العواصف الرملية التي قد تحوّل السماء إلى سحب كثيفة من الغبار، وتزيد من معاناة السكان في مختلف المدن والمناطق الريفية.
ومع انخفاض معدلات الأمطار إلى مستويات حرجة، وفقاً للتقديرات الدولية، وتفاقم آثار التغير المناخي ترتفع التحذيرات البيئية من صيف استثنائي قد يشهد تكراراً شبه يومي للعواصف الترابية مع توقعات بوصول عدد الأيام المغبرة إلى أيام عديدة هذا العام.
وتأتي هذه التوقعات وسط "بطء حكومي واضح" في تنفيذ خطط مواجهة تغير المناخ واحتواء أزماته البيئية، ما يثير قلق الأوساط العلمية والمجتمعية من تداعيات صحية واقتصادية قاسية، وسط تحذيرات من خبراء البيئة بشأن ترجيحات بمواجهة العراق صيف قاس لم تشهده البلاد منذ عقود، ما لم تتخذ إجراءات طارئة وسريعة للحد من التأثيرات السلبية المتوقعة.
وشهدت مدن وسط وجنوب العراق، مطلع الشهر الجاري، موجة عاصفة ترابية كثيفة أدت إلى تسجيل أكثر من 1800 حالة اختناق، حيث تسببت العاصفة بانعدام الرؤية في عدة مناطق وأثرت بشكل كبير على حركة الملاحة الجوية.
الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي في العراق أشارت إلى أن "موجات الغبار الكثيفة جاءت نتيجة نشاط رياح سطحية قادمة من شرق السعودية وجنوب غرب العراق، ما أدى إلى تدهور مستوى الرؤية الأفقية إلى أقل من كيلومتر واحد".
في محافظة الديوانية، سجلت دائرة الصحة المحلية 322 حالة اختناق بينهم عدد من الأطفال، فيما أبلغت محافظة البصرة عن 361 حالة مماثلة، بينما أعلنت دائرة صحة ذي قار أن حصيلة أولية للعاصفة تضمنت 174 إصابة باختناق.
تداعيات العاصفة لم تقتصر على الوضع الصحي فقط، إذ أغلقت العاصفة مطار البصرة الدولي بشكل مؤقت، وفق ما أفاد به مدير المطار حسن عبد الهادي. كما توقفت حركة الملاحة في مطار النجف الدولي لمدة ساعة ونصف نتيجة الظروف الجوية، في حين تسببت العاصفة بتراجع الرؤية إلى مستويات خطرة، ما أدى إلى وقوع خمسة حوادث سير في محافظة النجف، وفق أخبار تداولت في وقتها.
العراق مقبل على مواسم غبارية كثيفة
ويتوقع المتنبئ الجوي صادق عطية، تزايد تكرار العواصف الترابية خلال الفصول الانتقالية، مؤكداً أن مناخ العراق، خاصة في الوسط والجنوب، أصبح شبه صحراوي، ما يجعل الغبار ظاهرة طبيعية متجددة سنوياً.
ويقول عطية في حديث لمنصة "الجبال"، إنّ "المواسم الانتقالية، مثل الربيع والخريف، عادة ما تشهد تكراراً للعواصف الترابية نتيجة تصادم كتل هوائية باردة مع أخرى دافئة، وهو أمر طبيعي في مناخ العراق"، مبيناً أن "الموسم المطري في العراق يبدأ عادة منتصف تشرين الأول وينتهي منتصف أيار، وإذا كان هذا الموسم جافاً، كما هو الحال هذا العام، فإن العواصف الترابية تزداد تكراراً خلال فصل الربيع بشكل خاص".
موسم الصيف أيضاً يشهد إثارة للغبار، والكلام لعيطة، الذي تابع قائلاً إن "رياح البوارح، وهي رياح شمالية غربية، تبدأ بالنشاط مع بداية شهر حزيران وتستمر حتى أوائل آب، مما يؤدي إلى إثارة الغبار نهاراً، خصوصاً في فترات الظهيرة، قبل أن يترسب الغبار ليلاً، مضيفاً أن "مناخ العراق لا يخلو من مواسم الغبار سنوياً، إلا أن كثافتها تتراجع إذا سبق المواسم الانتقالية هطول أمطار غزيرة".
وفيما يتعلق بمواجهة العواصف الترابية، يرى عطية أن "الحلول المحلية داخل المدن عبر حملات التشجير ليست مجدية تماماً، لأن العواصف مصدرها الأراضي الصحراوية المحيطة، مثل جنوب نينوى وشمال الأنبار وشرق سوريا، وهذه المناطق تعتمد على الأمطار، وعند شح الأمطار تصبح عرضة للتعرية الريحية وإثارة الغبار نحو وسط وجنوب العراق".
ويضيف المتنبئ الجوي، أن "مواجهة ظاهرة الغبار تتطلب حلولاً استراتيجية تبدأ من معالجة مصادر الغبار وإعادة إحياء الأراضي الصحراوية، وهو أمر يتطلب وفرة كبيرة من المياه ودعماً دولياً، مما يجعل المهمة معقدة للغاية".
ويختتم عطية حديثه بالتأكيد على أن "مناخ الصيف في العراق بطبيعته حار وجاف، ولن تختلف المواسم المقبلة كثيراً عن سابقتها من حيث ارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار"، محذراً من "استمرار تأثير العواصف الترابية على صحة السكان، خاصة مرضى الحساسية والجهاز التنفسي".
وبعد أيام قليلة على العواصف الترابية الأخيرة، اعتبرت وزارة البيئة، الأحزمة الخضراء إحدى الوسائل الفاعلة في الحد من آثار العواصف الترابية، فيما أشارت إلى أن مجابهة العواصف الترابية تتطلب خططًا طويلة الأمد وتنسيقًا بين الجهات المعنية، لافتة إلى أن غالبيتها تنشأ في مساحات شاسعة خارج العراق.
ووفقاً لتقارير منظمات دولية، فإن تأثير التغير المناخي في العراق تفاقم خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أسفر عن ارتفاع حاد في درجات الحرارة، حيث تتجاوز موجات الحر الصيفية عادة 50 درجة مئوية مع نقص كبير في المياه.
وبحسب نفس التقارير فقد انخفض نصيب الفرد العراقي من الموارد المائية إلى 55 متر مكعب سنوياً، مقارنة بأكثر من 2000 متر مكعب قبل نحو عقدين.
العراق قد يشهد حتى 200 يوم مغبر هذا العام
وفي العام 2023، قال رئيس بعثة المنظمة في العراق، جيورجي جيغاوري، إن "تغير المناخ في العراق ليس مجرد مشكلة بيئية ومن المحتمل أن تتحول إلى أزمة إنسانية. فهو يغذي الاستغلال ويساهم في التنقل القسري".
وسجل برنامج المنظمة الدولية للهجرة لتتبع حالات الطوارئ المناخية في العراق، نزوح أكثر من 130,000 شخص بين الأعوام 2016 و2023 بسبب الآثار السلبية لتغير المناخ في مناطقهم الأصلية.
في غضون ذلك، يتوقع عمر عبد اللطيف، عضو مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة، ازدياد عدد العواصف الغبارية خلال العام الحالي بسبب قلة هطول الأمطار، مرجحاً في نفس الوقت أن يشهد العراق ما بين 150 إلى 200 يوم مغبر.
ويقول عبد اللطيف، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "تغيرات المناخ في العراق سريعة جدًا، في حين أن الخطط الحكومية لمواجهتها بطيئة للغاية"، مشيراً إلى أن "وزارة البيئة والوزارات المعنية لم تتعامل بجدية مع أزمة التغير المناخي منذ البداية، ولا يزال تنفيذ البرامج المخصصة لاحتواء هذه الأزمة يسير بوتيرة بطيئة".
ويشير عبد اللطيف، إلى عامل آخر وصفه بـ "الخطير"، يساهم في تفاقم ظاهرة العواصف الغبارية، وهو استنزاف المياه الجوفية، مبيناً أن العديد من المزارعين باتوا يعتمدون بشكل مفرط على هذه المياه، دون إدراك أنهم بذلك يستهلكون خزين البلاد الاستراتيجي من المياه، ما يزيد من تفاقم المشكلات البيئية.
وفي تصريحات صحفية نقلتها الوكالة الرسمية، يقول المتحدث باسم وزارة البيئة العراقية، لؤي المختار، إن "معظم العواصف الترابية تأتي من خارج الحدود بنسبة 50% الى 60%، وجزء منها يتكون داخل الحدود"، مستبعداً في نفس الوقت "حصول عواصف ترابية كثيرة هذا العام، وحتى إذا هبت فلن تكون تأثيراتها حادة أو شديدة، إثر الرطوبة وهطول بعض الأمطار في الأشهر الأخيرة من الربيع الحالي"، حسب قوله.
ويعتبر العراق، خامس البلدان الأكثر تعرضا للتدهور المناخي عالميا، نظراً للظواهر المناخية العنيفة التي تعصف به منذ نحو عشر سنوات، وفقاً للأمم المتحدة، والتي أكدت أيضاً أن العراق شهد عام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافاً منذ 40 عاماً، بسبب الانخفاض القياسي في هطول الأمطار.
تحذير من "صيف مليء بالعواصف الترابية"
ودخلت لجنة الزراعة والمياه النيابية خط الأزمة، حيث يؤكد رئيسها الأسبق فرات التميمي، أن معدل هبوب العواصف الترابية في العراق ارتفع بنسبة 10% خلال السنوات الخمس الأخيرة، مشيراً إلى أن العراق يواجه متغيرات مناخية معقدة ومتطرفة في بعض الأحيان، نتيجة للاحتباس الحراري وما يترتب عليه من جفاف وانحسار للأحزمة الخضراء، ما أدى إلى زيادة ملحوظة في معدلات هبوب العواصف الترابية.
إلى ذلك، يتوقع الخبير البيئي أحمد صالح خلال حديثه لمنصة "الجبال"، أن يشهد العراق خلال فصل الصيف الحالي موجات مكثفة من العواصف الترابية، في ظل المؤشرات والمعطيات البيئية السلبية، وعلى رأسها سوء الخزن الاستراتيجي للمياه.
ويوضح صالح، أن "ضعف الخزين المائي الاستراتيجي سيؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل ملحوظ، وانعدام الرطوبة في الأجواء، مما يزيد من فرص تشكل العواصف الترابية بشكل كبير"، مضيفاً أن "مواجهة هذه الظاهرة خلال الصيف الحالي أمر شبه مستحيل".
ويتحدث صالح، قائلاً إن "مكافحة العواصف الغبارية تتطلب سنوات طويلة عبر زراعة الأحزمة الخضراء والغابات والغطاء النباتي الأفقي، وهي مشاريع تحتاج إلى تخطيط وتنفيذ مستمر ضمن برامج مكافحة التصحر"، لافتاً إلى أن "العراق لم يواكب التغيرات المناخية منذ أكثر من 50 عاماً، مما فاقم الوضع البيئي بشكل كبير".
ويشير الخبير البيئي، إلى أن "غياب الإجراءات الجدية لمواجهة التغير المناخي ساهم في تآكل القشرة الأرضية، وتراجع الزراعة، وعدم إنشاء الأحزمة الخضراء حول المدن، وهو ما يعكس تقصيراً واضحاً من الحكومات المتعاقبة".
وعن تأثير العواصف الترابية، يؤكد الخبير البيئي، أن لها "تأثير كبير على مختلف نواحي الحياة، مبيناً أن “الرياح الطبيعية تسهم في تلقيح الأزهار والخضروات والفواكه، لكن الرياح المحملة بالغبار تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تتسبب ذرات الغبار الدقيقة في انسداد المسام، وتعيق عمليات التلقيح، مما يضر بالزراعة والبيئة، فضلاً عن تأثيرها السلبي المباشر على صحة الإنسان".
وفي 19 كانون الأول 2024، ضربت عاصفة غبار عنيفة العراق الأمر الذي تسبب في تسجيل 2600 حالة اختناق في العاصمة بغداد ومحافظات أخرى، اذ يقول في وقتها المتحدث باسم وزارة الصحة، سيف البدر، إن "الكوادر الصحية عملت وفق طاقتها القصوى لاستقبال المصابين وعلاجهم، وتنوعت الحالات بين اختناقات بسيطة وأخرى شديدة احتاجت إلى رعاية طبية مكثفة".
وبحسب التقديرات العالمية التي صدرت في العام 2022، فقد احتل العراق المرتبة العاشرة لأكثر 10 دول تلوثاً في العالم، إذ أظهرت فحص الجسيمات الصغيرة الضارة المحمولة في الجو والمعروفة باسم الجسيمات المعلقة (PM2.5) بأنها تصل إلى 39.6 ميكروغرام لكل متر مكعب في البلاد.