في لحظة أحداث 7 أكتوبر 2023، وجد العراق نفسه في موقع بالغ الحساسية بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة. فالأراضي العراقية لم تعد نقطة تماس محتملة بين طهران وواشنطن فقط، بل باتت ساحة اختبار يومي للتوازن بين الدولة والفصائل المسلحة، وبين الاستقلال والانجرار نحو أزمات المحاور.
بغداد العاصمة، مارست ما يمكن وصفه بـ"دبلوماسية الحافة"، وهي استراتيجية دقيقة هدفها منع انزلاق البلاد نحو مواجهة شاملة، سواء مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل، مع الحفاظ في الوقت نفسه على علاقاتها مع إيران ودول الجوار العربي.
إدارة الأزمة لا الانخراط فيها
على الرغم من الاستهدافات المتبادلة التي شهدتها القواعد الأميركية في العراق، وردود الفعل العنيفة أحياناً من واشنطن، سعت الحكومة العراقية إلى نزع فتيل التصعيد. فهي لم تنحَ منحى المواجهة، لكنها أيضاً لم تستسلم لضغوط الداخل الراديكالي المطالب بمواقف أكثر حدة تجاه واشنطن. بل أطلقت بغداد رسائل متوازنة تؤكد رفض استخدام أراضيها كساحة حرب، وتشدّد على احترام السيادة وتغليب منطق الدولة وذهبت احياناً الى ابعد من ذلك بالضغط الاقصى تجاه القوى الممثلة للنفوذ الايراني في البلاد واذرعه المسلحة وصلت الى تنفيذ عدد من حملات المداهمة والاعتقال لجماعات وصفها الاعلام الحكومي- الخارجة عن القانون.
هذه المقاربة لم تكن سهلة في ظل الانقسامات الداخلية، وتعدد مراكز النفوذ التي لا تزال تؤثر على القرار السياسي العراقي، وتجعل من العراق مساحة مشتركة بين القوى الكبرى والفواعل دون الدولة.
المبادرة لا التلقي
بعيداً عن الاكتفاء بدور المتلقّي للتغيرات الإقليمية، تحرّك العراق في الأشهر الماضية بمحاولات ملحوظة لتقديم نفسه كوسيط أو لاعب مستقل في المنطقة. تمثل ذلك في مشاركته الفاعلة بالقمة العربية في البحرين، وتبنّيه موقفاً متوازناً تجاه الاحداث في المنطقة، ودعمه الصريح لحقوق الشعب الفلسطيني دون الاصطفاف التام مع محور المقاومة أو التماهي مع الخطاب التطبيعي.
كما أعاد العراق فتح خطوط التواصل مع سوريا، في خطوة تتقاطع مع المصالح الإيرانية لكنها تحمل أيضاً أبعاداً استقلالية، خصوصاً في ضوء تحفّظ بعض القوى الموالية لطهران داخلياً على هذا الانفتاح، خشية أن يُضعف تموضعهم التقليدي في ملف الجوار السوري.
المعادلة الأصعب.. النفوذ والسيادة
تواجه بغداد معادلة صعبة يمكن تلخيصها بكيفية الحفاظ على الحد الأدنى من السيادة الوطنية في ظل وجود جماعات مسلحة مرتبطة بأجندات إقليمية. هذه الجماعات تُقيّد قدرة الحكومة على تطبيق سياسة خارجية متزنة ومستقلة، وتحوّل كل خطوة دبلوماسية إلى ساحة صراع داخلي.
وبينما تسعى الحكومة لطمأنة واشنطن ومنع التصعيد، تواجه في الوقت نفسه حملة داخلية من القوى المقرّبة من طهران تتّهمها بالتراخي أو الخضوع، ما يضعها في موقع دقيق بين مطرقة الضغوط الخارجية وسندان التوازنات الداخلية الهشّة.
مساحة للتنفّس
دبلوماسية العراق منذ أكتوبر 2023 ليست مجرد رد فعل على الأزمات، بل محاولة – مهما كانت محدودة – لإعادة رسم موقع العراق في المنطقة كدولة لا كساحة. وقد أثبتت هذه الأشهر أن العراق قادر، إذا ما امتلك الإرادة والغطاء السياسي الكافي، على أن يمارس دورًا متقدمًا في ضبط التوترات لا تأجيجها.
لكن ذلك لن يتحقق ما لم يتحوّل شعار "العراق أولاً" من مجرد عنوان سياسي إلى منهج فعلي في صنع القرار. يتطلب ذلك إرادة واضحة لتكريس السيادة كأولوية لا تقبل التنازل، ومراكمة خطوات ثابتة لعقلنة السياسة الخارجية، وكبح التدخلات غير الرسمية في الملفات الإقليمية. وحده عراق يمتلك قراره، ويعيد ضبط علاقاته الخارجية بما يخدم مصلحته الوطنية، يمكنه أن ينجو من حافة النار، وأن يستعيد دوره لاعبًا فاعلًا لا ساحة صراع.