بعد عام 2003، وعلى إثر الانفتاح الفكري والعقائدي الذي حصل في العراق، دخلت الكثير من التيارات الدينية إلى البلاد، سواءً في المحيط السُني أو الشيعي، وأسست كيانات لها، وتغلغلت داخل المجتمع، وتوسع عدد مناصريها.
في السياق: "يؤدي لنتائج وخيمة".. رجال دين ومختصون يعلقون عبر "الجبال" حول حظر "الحركة المدخلية" في العراق
وبعد عام 2003، ظهرت عشرات الجماعات الدينية في العراق، وكانت لكل واحدة منها توجهات تختلف عن نظيراتها في الساحة، سواء على صعيد المشاركة في الانتخابات العراقية أو التطوع في صفوف الجيش العراقي ومواجهة القوات الأميركية آنذاك، ومن تلك الجماعات ما يعرف بالحركة "السلفية المدخلية"، وهو تيار ديني كان موجوداً منذ نظام صدام حسين، ولكن انتشاره كان محدوداً جداً، لكنه ظهر وبقوة متأثراً بخطاب ديني قادم من السعودية، ويرتكز على مبدأ الطاعة المطلقة للحاكم.
يُعرف "التيار المَدخلي" أو "الجامية" نسبةً للشيخ محمد أمان الجامي، بأنه تيار سلفي برز في السعودية، ويُعد الشيخ ربيع بن هادي المدخلي مرجعيته الأبرز، واكتسب التيار زخماً ملحوظاً بعد دخول العراق إلى الكويت، بدعمه موقف الحكومة السعودية بالاستعانة بالقوات الأميركية.
وبرز اسم "المدخلية" مؤخراً على الساحة، بعد أن أعلنت مستشارية الأمن القومي عن تصنيف الحركة بأنها "عالية الخطورة وتهدّد السِّلم المجتمعي والأمن القومي"، وذلك بموجب كتاب سرّي صدر عن المستشاريّة، ومُوقَّعٍ بموافقة رئيس الوزراء، أُلزم فيه محافظي بغداد وكركوك وديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى بتفعيل الإجراءات القانونية والبرامج المجتمعيّة لمكافحة هذا التيار، بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات والدفاع والداخلية والحشد الشعبي.
لماذا الحركات السُنية فقط؟
الأمر أثار ضجّة في الوسط السُني، خاصة وأن الحركة وأنصارها وشيوخها، يصفهم متخصصون بـ"الهدوء" و"الاعتدال"، والوقوف بجانب الحاكم، بل وكانت الفتاوى من كبار الحركة "تحرّم" القتال ضد القوات الأميركية.
ويرى مراقبون، أن قرار مستشارية الأمن القومي، يأتي بمثابة "تحذير مما هو قادم"، من خطورة حظر الجماعات العقائدية والدينية، وتأثيراته على الحريات التي كفلها الدستور، فضلاً عن المؤشرات القادمة لـ"الصراع الكبير، داخل المكون السُني"، وخاصة بين الحركات السلفية والحركات الصوفية.
وبهذا الصدد يؤكد أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة الأنبار مازن مزهر الحديثي إلى أن "الأصل في الإسلام هو الاعتدال والوسطية".
وبين الحديثي في حديثه لمنصّة "الجبال"، أن "الأصل في الدين هو عدم الإفراط والتشدد، والدين الإسلامي بين العقيدة الواضحة والصحيحة في الدين، وأغلب الحركات التي تأسست بعد عام 2003 هي حركات ذات طابع سياسي".
وأضاف، أن "الأصل هو محاربة جميع الحركات والتيارات الدينية المتشدة، سواءً سنياً أو شيعياً، والسلفية المدخلية، ليست أكثر خطورة من بعض الحركات الدينية داخل المذهب الشيعي التي تعد خطراً على السلم الأهلي والمجتمعي، والتي تعتدي على رموز أهل السنة، وتسبّ صحابة الرسول وزوجاته".
وذكر، "نحن مع متابعة الحركات المتشددة، ومنع انتشارها وتمددها، ولكن يجب أن تتعامل القوات الأمنية بعدالة، وأن لا يكون عملها مختصراً ضد طائفة واحدة، ونحن نسمع ونرى يومياً عشرات الحركات المتشددة داخل المذهب الشيعي، التي تعمل بوضح النهار، دون أي تضييق".
وعبّر تحالف السيادة، بزعامة خميس الخنجر، عن "قلقه بشأن قرار مستشارية الأمن القومي القاضي بتصنيف إحدى الحركات الدينية ضمن المذهب السُني"، المعروفة بـ"المدخلية"، بأنها "عالية الخطورة" على السلم الأهلي، حيث أشار التحالف إلى أن ذلك يُمثل "تجاوزاً خطيراً" على حرية الرأي والاعتقاد، بما قد يدفع إلى التطرف.
السيادة عن حظر "الحركة المدخلية": تجاوز خطير يفتح الباب لاستهداف حركات أخرى
وأكد التحالف، أن "مواجهة التوجهات الفكرية ذات الأبعاد العقائدية لا تكون من خلال قرارات أمنية أو أحكام مسبقة، بل بالحوار والانفتاح وتعزيز الفضاءات الفكرية التي تسمح بالنقاش المسؤول"، لافتاً إلى أن "تقييد الحركات الفكرية سيدفع أتباعها نحو التطرف، في حين تقتضي الحكمة احتواءها في إطار القانون والمجتمع المدني".
صراعٌ عقائدي
أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل محمود عزو، أشار إلى أن الحركة المدخلية هي جزء من الحركات السلفية التي تعتمد على الجانب الفقهي، وطورت نفسها بمدارس جديدة، ولم تعد تتلقى التعليمات من السعودية كما كان في السابق.
ولفت عزو في حديث لمنصّة "الجبال" إلى أن "الحركة المدخلية السلفية من الحركات والتيارات المسالمة جداً، ولم يؤشر على خطورتها طيلة السنوات الماضية، ولم تحرض على العنف، ولم تستخدم السلاح".
وقد عانت بحسب عزو، "طوال فترة سيطرة تنظيم داعش على المحافظات السنية من الملاحقة والتضييق، وأنصارها ينتشرون في غرب نينوى، وأطراف الموصل، ولم تسجل عليهم أي ملاحظات أمنية".
لكن ما يحصل هو جزء من الصراع بينهم وبين المدارس الصوفية، لأنهم يعتبرون الصوفية "حركات شركية"، والمدارس الصوفية ترفضهم، وبالتالي كان على مستشارية الأمن القومي أن تدرس القرار قبل البت بحظر الجماعة من العراق، يقول عزو.
ويعرف أبو منار العلمي، وهي كنيته ولا يُعرف اسمه حقيقي، من أهالي محافظة صلاح الدين، كأحد أبرز منظّري هذا التيار داخل العراق، وتُنسب إليه دعوة في إحدى كتبه "تشرعن تولي الحاكم العسكري بول بريمر إدارة العراق في تلك المرحلة ويُقر وجوب طاعته، وذلك تجنّباً للفتنة والفوضى".
ويعلق فلاح الفهداوي وهو أحد مشايخ السلفية المدخلية في مناطق حزام بغداد، على قرار حظرهم من قبل مستشارية الأمن القومي، وأصفاً الأمر بـ"السابقة الخطيرة".
ويوضح في حديثه لمنصّة "الجبال"، أن "مستشارية الأمن القومي استندت على تقارير مضللة وصلتها من جهة دينية تعرف بجماعة الرباط المحمدي، وهذه الجهة لها ارتباطات خارجية معروفة".
وأشار إلى أنه "بسبب الموقف الهادئ للتيار السلفي المدخلي، فقد منحتنا إدارة الوقف السُني العشرات من المساجد في بغداد وصلاح الدين والأنبار ونينوى وكركوك وديالى، واستطعنا من التغيير في الشباب، وحثهم نحو تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل معتدل، وحاربنا التنظيمات الإرهابية، ودفعنا ثمن ذلك حيث قتل واعتقل العديد من شيوخنا ، إبان سيطرة تنظيم داعش على المحافظات السنية".
ويؤكد الفهداوي، أن "جماعة الرباط المحمدي أغاضها الأمر، وهي تسعى للاستيلاء على أكبر عدد من المساجد، ومن خلال علاقتها الواسعة داخلياً وخارجياً، استطاعت أن تؤثر في صدور قرار مستشارية الأمن القومي".
وأضاف، أنه "لم يؤشر أي دعوى للحركة المدخلية تؤثر على السلم المجتمعي، أو تهدد أمن البلد، ودائماً دعواتنا بمساندة القوات الأمنية، والمشاركة الواسعة في الانتخابات، ودعم السلطة".
تحذيرُ من القادم
من جهته، حذّر الخبير في الشأن الأمني طارق العسل، مما وصفه بـ"خطورة قرار حظر المدخلية السلفية في العراق"، حيث يرى أن "الأمر قد يفتح الباب لتطور الحركات الدينية المتشددة".
وقال العسل في حديث لمنصّة "الجبال" إن "الحركة كانت تمارس عملها بشكل محدود، وكل أفعالها مختصرة على المساجد، من عبادات ودورات دينية، وأفكار، والأهم أنها تبقى في داخل المسجد، ولم تؤثر إطلاقاً على المجتمع، وهي تختلف اختلافاً جذرياً عن الحركات السلفية الجهادية".
وأردف بالقول، أن "قرار الحظر سيفتح الباب للمئات من الشباب بالبحث عن تفاصيل الحركة، أو يعطي انطباعاً بأنها حرب عقائدية على السُنة فقط، بالتالي قد تفتح الباب لنشوء تيارات دينية أكثر خطورة على المجتمع".
وتابع، أن "الحركة المدخلية لم تؤشر عليها أي مخاطر أمنية، وهي منبوذة من جميع الحركة السلفية، والجماعات المسلحة التي عملت داخل العراق طيلة السنوات الماضية، وأنصارها من المسالمين، ويحرمون حتى التظاهر ضد الدولة".
ويعزو الباحث في الشأن السياسي يحيى الكبيسي، قرار السلطات العراقية حظر حركة السلفية المدخلية، إلى ما اسماه "التنافس داخل مجتمع الحركات السنية"، والذي رأى في ذات الوقت، أن "قوى شيعية قررت مساندة طرف ضد آخر، في هذا الإطار".
الكبيسي قال في تغريدة له على موقع "أكس"، إن "المدخلية ساهمت منذ وقت مبكر بتشجيع المواطنين السنّة على التطوع في الجيش والشرطة، وحرّمت حتى الجهاد ضد القوات الأميركية، وحرّمت التظاهر ضد رئيس الوزراء نوري المالكي واعتبرته ولياً للأمر".
لكن على ما يبدو، فالمدخلية تنافس مجموعة الرباط المحمدي المتحالفة مع إيران وفصائل بارزة مثل "بدر" و"العصائب"، ولذلك لابد من إزاحتها، حسب وصف الكبيسي.