اضطر محمد وليد (31 سنة) الى إحداث تغييرات جوهرية في منزل العائلة الكائن بمنطقة العطيفية وسط العاصمة بغداد، فهو الشقيق الأكبر لإثنين آخرين ورثوا المنزل عن والدهم، وتوجب عليه تقطيع المنزل ليستفيد منه الجميع ويعيشوا متجاورين بدلاً من بيعه واقتسام ثمنه، إذ لن تكفي حصة أي منهم لشراء منزل جديد.
تعد العاصمة بغداد، التي يعيش فيها نحو 8 ملايين شخص، واحدة من أكثر المدن غلاء في أسعار العقارات، التي تصل في بعض المناطق إلى مئات ملايين الدولارات لقطعة بمساحة بناء تبلغ 300 متر، فيما تتجاوز أسعار بدلات الإيجار في المتوسط الـ500 دولار، وهو مبلغ يوازي متوسط الراتب الحكومي، بينما ترتفع الأسعار عدة أضعاف في وسط العاصمة.
يقول محمد، وهو يشير إلى شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية المعلقة على جدار الصالة فوق رأسه: "كانت هذه من المرات النادرة التي أستثمر فيها دراستي"، موضحاً: "أعمل في متجر لبيع مواد التجميل براتب شهري محدود، هو عمل غير ثابت لا أستطيع معه استئجار منزل، وكذلك الحال مع شقيقي اللذين يعملان بأعمال حرة".
يأخذ نفساً عميقاً، ويقول بنبرة حزن: "لم نحصل على وظائف حكومية، وهذا يعني أنه يصعب علينا الحصول على قروض لبناء منازل لنا. ولأننا لسنا موظفين أو صحفيين أو منتمين للأحزاب، ليست هنالك أراض سكنية توزع لنا"، مبيناً: "لذلك قطعت المنزل إلى ثلاثة أجزاء، وكل واحد منا يعيش الآن في جزء مع عائلته".
الحل الذي توصل إليه محمد، هو ذاته الذي لجأت إليه عشرات آلاف من العائلات في بغداد، بتقطيع الدور المبنية على مساحات بناء تمتد من 250 الى 500 متر، لتضم أكثر من منزل وبعدة طوابق، او حتى الدور المبنية على مساحة بناء لا تتعدى الـ200 متر، بسبب ارتفاع أسعار العقارات وبدلات الإيجار وندرة الأراضي السكنية، حتى تضاعفت أعداد الأبنية بنحو كبير على حساب الفضاءات المفتوحة والحدائق المنزلية التي اختفت، وبات البعض يسمي بغداد (مدينة الكونكريت).
آخر إحصاء للمشيدات أجري سنة 2009، عرف بـ(إحصاء العد والترقيم) أظهر أن في بغداد نحو مليوني مبنى، سكني وتجاري وحكومي. ويعتقد متخصصون بأن العدد تضاعف بعد مرور أربعة عشر سنة من ذلك الإحصاء، بسبب زخم الانتقال من محافظات الجنوب كما المناطق المحيطة بالعاصمة إلى داخلها بحثا عن فرص عمل، ونزوح الكثير من سكان مدن غربي البلاد التي سيطرة عليها تنظيم داعش في 2014 إلى العاصمة للاستقرار فيها.
ويلفت أصحاب مكاتب عقارية ومهندسون ومستثمرون، إلى أن أزمة السكن دفعت بأصحاب الأملاك إلى استثمار عقاراتهم الى أقصى حد ممكن بتقطيعها وبيعها، أو بإحداث مشيدات إضافية عليها تطلبت تغييرات تصميمية كبيرة شوهت بالنتيجة معالم أحياء كاملة وأتت على البناء البغدادي التقليدي بما يرافقه من حدائق، لتتحول الى أبنية غير متجانسة ترتفع لعدة طوابق.
كما شهدت السنوات الأخيرة بناء عشرات المجمعات السكنية في أنحاء مختلفة داخل بغداد على اراض تضم منشآت وأبنية مدنية قديمة مهملة، او مساحات خضراء او أراض غير مستغلة تعود لمؤسسات محددة بالدولة. لمواكبة التضخم السكاني المتسارع، بمعدل يقترب من مليوني نسمة بين 2009 و2020 وفقاً لتقديرات وزارة التخطيط، هذا فضلاً عن بناء عدد كبير من مجمعات التسوق التي تعرف بـ(المولات) او العمارات التجارية متعددة الطوابق.
"غيّر هذا وجه بغداد العمراني، وشوه تصميمها الأساسي" يقول المؤرخ والباحث في التراث البغدادي، عادل العرداوي، ويضيف: "أزمة سكن حادة، وزيادة كبيرة في أعداد السكان، أدّيا الى تقسيم البيوت الكبيرة إلى صغيرة وانتشار المساكن العشوائية"، مشيرا الى مسؤولية الحكومة نتيجة عجزها طوال سنوات عن توفير أراض سكنية مخدومة او بناء مدن جديدة خارج بغداد.
ويعتقد أن الحفاظ على ما تبقى من التصميم العمراني لبغداد، يحتاج الى قرارات وصفها بالصارمة من جهات عليا تتمتع بصلاحيات أكبر من صلاحيات أمانة العاصمة أو وزارة الإعمار والإسكان. ويعدد الحلول: "القضاء على العشوائيات وتوزيع قطع أراضٍ على المواطنين وتسهيل الحصول على قروض لبنائها".
عشوائيات وأراض مباعة خلافاً للقانون
أعلنت وزارة التخطيط في كانون الأول 2021 أن بغداد احتلت المرتبة الأولى في عدد العشوائيات (مساكن مبنية دون موافقات رسمية على أراض مملوكة للدولة وبعضها زراعي) بواقع 522 ألف وحدة سكنية، بزيادة بلغت ثلاثة اضعاف ما كانت عليه المشيدات العشوائية في عام 2017 اذ لم تتجاوز أعدادها في حينها عن 137 الفاً وفقاً للمنصة الوطنية الرئيسية للإعمار والتنمية.
يقول محمد عصام (46 عاماً) وهو موظف حكومي يسكن بمنطقة زيونة، وعمل مساحاً للأراضي عدة سنوات، إن "وجود نصف مليون منزل عشوائي يعيش فيها أكثر من مليوني انسان، يوضح حجم التشويه العمراني الحاصل وعمق الكارثة الخدمية في بغداد، فهؤلاء يحتاجون الى طرق ومجارٍ ومستشفيات ومدارس وماء وكهرباء".
ويتابع وهو يشير الى الحي الذي يسكنه والذي تحولت الكثير من بيوته ذات الحدائق الواسعة الى كتل كونكريتية متلاصقة بعد تقطيع مساحاتها "هؤلاء لم يجدوا حلا غير ذلك، بدل السكن في العشوائيات".
صاحب مكتب عقاري في مدينة الصدر، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في بغداد، ذكر أن العشوائيات الشائعة هي تلك التي بنيت على أراض زراعية قسّمها واضعو اليد عليها أو مالكو حق استغلالها، الى قطع صغيرة بمساحات لا تتجاوز 200 متر مربع ثم باعوها، رغم انها لا تنقل إلى ملكية المشتري لأنها مسجلة بصفة زراعية، ولا يجوز أصلاً إفرازها "بمعنى، لا يجوز لهم التصرف بها، لذلك فما يقومون به مخالف للقانون".
وقال إن أسعارها تتراوح بين 10 و 20 ألف دولار أميركي، أي بين (15 و 30 مليون دينار تقريباً) وهي أسعار زهيدة جداً مقارنة بالأراضي المملوكة صرفاً والتي يصل سعر المتر الواحد منها في بعض مناطق العاصمة إلى أكثر من خمسة آلاف دولار.
ويوضح: "لهذا السبب يلجأ أصحاب الدخول المحدودة إلى شراء قطع الأراضي الزراعية وإنشاء منازل واطئة الكلفة عليها، على أمل أن تسجل بأسمائهم لاحقاً، وهكذا صارت هناك عشرات الآلاف من المشيدات بدون ضوابط وخارج مواصفات وحسابات التصميم العمراني".
ويحمل الساكنون في أراض زراعية صور قيود، تعرف بـ(سند 25) وهو سند ملكية للأراضي الزراعية التي يملكها اكثر من شخص، وكلما باع احدهم منزله استبدل اسمه في السند باسم المشتري. كذلك يستطيع فرز ارضه بسند منفصل عن باقي المشاركين في الأرض مع الإبقاء على نوع الأرض (زراعية) لكن الأمر مكلف جداً من الناحية المالية بسبب الرسوم، وكل هذا وفق قانون 25 لسنة 1971 الخاص بالإصلاح الزراعي.
يقول محمد عصام (46 عاماً) وهو موظف حكومي يسكن بمنطقة زيونة، وعمل مساحاً للأراضي عدة سنوات، ان "وجود نصف مليون منزل عشوائي يعيش فيها أكثر من مليوني انسان، يوضح حجم التشويه العمراني الحاصل وعمق الكارثة الخدمية في بغداد، فهؤلاء يحتاجون الى طرق ومجارٍ ومستشفيات ومدارس وماء وكهرباء".
ويتابع وهو يشير الى الحي الذي يسكنه والذي تحولت الكثير من بيوته ذات الحدائق الواسعة الى كتل كونكريتية متلاصقة بعد تقطيع مساحاتها "هؤلاء لم يجدوا حلا غير ذلك، بدل السكن في العشوائيات".
صاحب مكتب عقاري في مدينة الصدر، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في بغداد، ذكر أن العشوائيات الشائعة هي تلك التي بنيت على أراض زراعية قسّمها واضعو اليد عليها أو مالكو حق استغلالها، الى قطع صغيرة بمساحات لا تتجاوز 200 متر مربع ثم باعوها، رغم انها لا تنقل إلى ملكية المشتري لأنها مسجلة بصفة زراعية، ولا يجوز أصلاً إفرازها "بمعنى، لا يجوز لهم التصرف بها، لذلك فما يقومون به مخالف للقانون".
وقال إن أسعارها تتراوح بين 10 و 20 ألف دولار أميركي، أي بين (15 و 30 مليون دينار تقريباً) وهي أسعار زهيدة جداً مقارنة بالأراضي المملوكة صرفاً والتي يصل سعر المتر الواحد منها في بعض مناطق العاصمة إلى أكثر من خمسة آلاف دولار.
ويوضح: "لهذا السبب يلجأ أصحاب الدخول المحدودة إلى شراء قطع الأراضي الزراعية وإنشاء منازل واطئة الكلفة عليها، على أمل أن تسجل بأسمائهم لاحقاً، وهكذا صارت هناك عشرات الآلاف من المشيدات بدون ضوابط وخارج مواصفات وحسابات التصميم العمراني".
ويحمل الساكنون في أراض زراعية صور قيود، تعرف بـ(سند 25) وهو سند ملكية للأراضي الزراعية التي يملكها اكثر من شخص، وكلما باع احدهم منزله استبدل اسمه في السند باسم المشتري. كذلك يستطيع فرز ارضه بسند منفصل عن باقي المشاركين في الأرض مع الإبقاء على نوع الأرض (زراعية) لكن الأمر مكلف جداً من الناحية المالية بسبب الرسوم، وكل هذا وفق قانون 25 لسنة 1971 الخاص بالإصلاح الزراعي.
اندثار المعالم التراثية
تضم بغداد العشرات من المعالم التاريخية والتراثية المصنفة على أنها ذات قيمة ثقافية أو وطنية، لكن معظمها طالتها يد الإهمال والتخريب نتيجةً للتفجيرات التي كانت تقوم بها الجماعات المسلحة المتشددة منذ 2003 ولغاية منتصف 2017، وهو تأريخ طرد تنظيم داعش من مناطق كان يسيطر عليها في شمالي وغربي البلاد.
الكثير من تلك المعالم، توجد في شارع الرشيد، الذي يعد واحداً من أقدم وأشهر شوارع بغداد، ويعود تاريخ إنشائه إلى الدولة العثمانية، ويمتد من منطقة باب المعظم حتى منطقة الباب الشرقي. تقع على جانبيه العديد من المعالم التاريخية والتراثية من مساجد ومدارس وأسواق، فضلا عن عشرات البيوت المميزة بعمارتها البغدادية والتي تتهاوى من الاهمال او يتعمد اصحابها تدميرها للتمكن من بيعها كقطعة ارض.
وشهدت أغلب المعالم القديمة لشارع الرشيد خلال العقدين الأخيرين، اهمالاً حكومياً ولم تتم صيانتها أو حمايتها من التجاوز أو الاندثار على الرغم من المطالبات المستمرة لناشطين ومهتمين بالتراث، من أجل إحياء هذه المعالم ليستعيد الشارع هويته التي باتت مفقودة.
البعض يتهم وزارة الثقافة بتعمد إهمال المعالم التراثية ومن بينها شارع الرشيد، ومن بين هؤلاء، الوزير الأسبق لهذه الوزارة مفيد الجزائري، الذي شغل المنصب سنة 2005، فيقول إن "نظام المحاصصة والإسلام السياسي صدّرا شخصيات تدير وزارة الثقافة والسياحة والآثار بنحو لا يتوافق مع متطلبات الحفاظ على الهوية الثقافية والتراثية لبغداد". ويقصد بذلك الذين شغلوا المنصب بعده.
ويوضح وجهة نظره بالقول: "تنظر الكتل السياسية الكبرى الى وزارة الثقافة بنظرة ازدراء وترفضها الكثير من الكتل السياسية بسبب عدم اهتمام رؤسائها بالثقافة والتراث"، مستدركاً بأن "مشكلة عدم الاهتمام بالتراث، لا علاقة لها بالتخصيص المالي أو الموازنة، بل باهتمامات من يدير ملف التراث ووضْع وتنفيذ خطط واستراتيجيات جادة للحفاظ عليه".
الجهات الأمنية العراقية أكدت عبر بيانات عديدة في أوقات اشتداد التدهور الأمني ما بين 2006 و2017، أن أعمال تفجير إرهابية دمرت أو أضرت بمبان وأسواق تراثية في بغداد ومنها (جامع الاورفلي، وكنيسة النجاة وشارع المتنبي) وغيرها.
شكل اخر من التجاوز، قامت به جهات رسمية، ومن أمثلتها قيام الوقف الشيعي، سنة 2013 بالاستحواذ على بيت حضرة بهاء الله، بحيّ الطلائع في جانب الكرخ، الذي كان بيتاً لعبادة البهائيين، تم تحويل هويته وأصبح أسمه حسينية الشيخ بشار، على الرغم من أن ملكيته تعود لوزارة الثقافة والسياحة والآثار، بوصفه واحداً من المباني التراثية في بغداد.
وهذا بموجب البيان رقم 42 لسنة 2011 الذي صدر بإمضاء وزير الثقافة حينها سعدون الدليمي، ونشر في الوقائع العراقية العدد 4224 بتأريخ 26-12-2011.
ستار محسن، مدير دار سطور للنشر والتوزيع، من المهتمين بتوثيق التراث البغدادي يرى بأن "تدمير المعالم التراثية" ينضوي تحت عملية ممنهجة تقف خلفها عوامل اقتصادية، يوضحها بقوله: "بعد فوضى 2003 بدأ الإهمال الذي نرى نتائجه الآن على المعالم التراثية، وتقف خلفه جهات ليس من مصلحتها بقاء المباني التراثية قائمة لما تمتلكه من قيمة مالية عالية بسبب موقعها وسط بغداد، اذ يتركوها تتآكل وتسقط للتعامل معها لاحقا كأراض يمكن استثمارها". يهزّ رأسه وهو يتصفح كتاب تاريخ ضخم، ويواصل: "للاسف تنظر الجهات المسؤولة الى التراث البغدادي بعين المتفرج وليس بعين المسؤول، هذه تمثل خسارة كبرى لا يمكن تعويضها".
هجرة المسيحيين
تتراوح أعداد المسيحيين في بغداد سواء المستقرين فيها او المترددين عليها، بين 300 و400 ألف مسيحي وفقاً لـ"وليام وردا"، وهو عضو في منظمة حمورابي التي تدافع عن حقوق المسيحيين في العراق، في حين أن أعدادهم كانت تتجاوز الـ 750 ألفاً قبل سقوط نظام حزب البعث في العام 2003.
مصادر أخرى، تؤكد أن أعداد المسيحيين في البلاد لا تتجاوز حاليا الـ 250 ألفاً جلّهم مستقر بشكل شبه دائم في اقليم كوردستان، وهم المتبقون من مليون ونصف المليون نسمة كانوا متواجدين قبيل 2003.
يرى وردا، أن هجرة المسيحيين عن بغداد خلال العقدين الأخيرين أثرت بشكل كبير في تغيير معالمها، موضحاً: "باع أغلب المسيحيين في الكرادة ومنطقة الـ 52 بيوتهم، وتم تقسيمها الى بيوت صغيرة لتصبح ما يشبه الأقفاص البشرية، كما أن أحياء المسيحيين في منطقة الدورة أفرغت من سكانها بشكل شبه كامل بعد أن كان يقطنها 150 ألف مسيحي، والان لا يتجاوز عددهم الآلاف".
يشير بذلك إلى أن المالكين الجدد من غير المسيحيين، تجاوزوا على الطراز العمراني للمنازل وابدلوه تماما بعد تقسيمها أو هدمها وبناء مشيدات غيرها، مما أضر بالمعالم التي عرفت بها بغداد، وفقاً لرأيه.
وفيما يتعلق بالكنائس، يقول وردا، إن الكثير منها أغلقت أبوابها، لعدم وجود مسيحيين يقيمون صلواتهم فيها، "وباقي الكنائس شهدت تراجعاً كبيراً في أعداد روادها، فالكنائس التي كانت تمتلئ في المناسبات تصل أعداد من يدخلونها في ذات المناسبات مؤخرا، الى خمسين شخصاً كحد أقصى".
ويوافق وردا، الكثير ممن يعتبرون أنفسهم أبناء بغداد الأصليين، فهم يرون ان تبدل أبناء المدينة بهجرة الكثيرين منهم ونزوح آخرين اليها، أثرت ليس على البناء المعماري بل حتى على السلوك الاجتماعي.
ويمكن ملاحظة حجم التحولات في البناء وطبيعته، في منطقة الكرادة التي كانت تضم المسيحيين الى جانب المسلمين الشيعة والسنة، حيث يتم هدم عشرات البيوت السكنية المبنية بالطابوق وذات المساحات الكبيرة بطرازها القديم وبما تضمه من حدائق وأروقة واسعة، لتعلو مكانها بنايات بعدة طوابق وبواجهات من البلاستيك والزجاج.
تعددت أسباب هجرة المسيحيين من بغداد على مدى عقود خلت، فمنهم من هاجر لأسباب سياسية وأمنية اثر تهديدات تلقوها، ومنهم من فعل ذلك بسبب هجرة أقربائه وبقائه وحيداً في المدينة، او لأسباب اقتصادية.
ويرى الإعلامي المسيحي كمال يلدو، الذي ترك بغداد، قبل سنوات لأسباب سياسية، أن آخر دوافع زيادة عدد المسيحين المهاجرين كان الخوف من وصول داعش الى بغداد في 2014 وتصفيتهم كما حدث مع الكثير من مسيحيي محافظة نينوى التي سيطر عليها التنظيم في 10 حزيران 2014. ويؤكد أن ميليشيات مسلحة انتشرت في بغداد بعد 2014، فرضت اتاوات وممارسات دينية إسلامية على المسيحيين خلال بعض الفترات كإلزام النساء بالحجاب، مما دفع البعض الى ترك المدينة والنزوح صوب أقليم كوردستان، أو ترك البلاد بأسرها.
ويقول عن ذلك: "مارست المليشيات بعد 2003 حصاراً على المسيحين بغطاء ديني، لكن الدوافع كانت مالية بحتة وليست دينية وهي الاستيلاء على بيوت ومحال المسيحيين وحتى الكنائس. واستغلوا في ذلك ضعف الدولة وعدم قدرتها على توفير حماية للمسيحين في فترات الحروب والنزاعات الطائفية".
الناشط في مجال حقوق الأقليات سرگيس يوخنا، يعد هجرة مسيحي بغداد سبباً للتغيير الديموغرافي في بعض أحيائها والذي حمل معه تغييرا في معالمها، مذكرا بما وصفه تراخي حكومات ما بعد 2003 في ملف التواجد المسيحي، فقال: "الحكومات المتعاقبة جميعها وضعت في برنامجها ملف المسيحيين وهجرتهم، ولكن للأسف الى اليوم لم نر عملاً حكومياً جاداً لدعم العودة الطوعية للمهاجرين المسيحيين".
ويضيف: "ذروة هجرة مسيحيي بغداد حصلت بين عامي 2004 و 2013 لما عانوه في زمن الطائفية وخاصة حادثة مجزرة سيدة النجاة سنة 2010، ما ساهم بإحداث تغيير ديموغرافي في عدة مناطق وتحويل المعالم المسيحية الى اسواق تجارية ومولات ومقار شركات ومنها كنيسة السريان في الشورجة والتي بنيت عام 1834 والان هي عبارة عن أسواق تجارية، ودير الكلدان في الدورة والذي يتحول الى بناية تجارية وغيرها".
فيما يؤكد الباحث والمؤرخ علي النشمي، ضرورة اصدار قوانين تنهي الفوضى العمرانية، وتضع اليد على البيوت التراثية التي لا تعود ملكيتها للدولة بل لأشخاص، ما يفرض تحديد شكل التصرف بها. وتحدث النشمي عن تقصير حكومي في ملف الحفاظ على التراث، قائلا: "الجهات المالكة للمعالم التراثية كالأوقاف الشيعية والسنية ووزارة الثقافة أهملت المعالم التراثية، لذا يجب الضغط عليها من قبل الهيئة العامة للتراث والاثار للقيام بواجبها والحفاظ على معالم بغداد".
ويشيد كمال عبدالله وهو موظف متقاعد، في السابعة والسبعين من عمره، بمحاولات الحفاظ على بعض شوارع بغداد التاريخية وانقاذ ما بقي من أبنيتها سواء المبنية بالطريقة التراثية القديمة المعروفة بالشناشيل او غيرها كونها تجسد وجه بغداد الحضاري، لكنه يعتقد ان شكل الأحياء البغدادية المشيدة في النصف الثاني من القرن الماضي الى زوال.
يقول بيأس: "لن يستطيع أحد ايقاف التشويه العمراني الحالي. البيوت ذات الاطلالات الجميلة الهادئة بحدائقها المزروعة بالورود والأشجار، مصيرها الهدم والتحول الى كتل كونكريتية بواجهات من البلوك المصبوغ أو الزجاج والبلاستك".
يهز برأسه، وهو يشير الى عدد منها، ويردد بصوت منخفض: "المسألة لا تتعلق بالحاجة التي يفرضها التزايد الهائل في عدد السكان، بل بالثقافة والذوق العام وجني المال".